المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
مات طلال مقاتلاً في المعركة.
– سأقهره.. سأقهره هذه المرة كما قهرته من قبل.
هكذا قال لي في آخر مكالمة بيننا وهو يشير الى مرض السرطان دون أن يسميه، فقد كان قد قهره فعلاً من قبل. يتحدث عن المرض حديث مقاتل عن عدوه، لدرجة أن عزيمته انتقلت إلي فجعلني أتوقع أن يقوم صديقي ثانية ويتابع شغله الفريد الذي أدهش به العالم: إطلاق الأغاني العربية من شفاه اسكندنافية!
هكذا كان طلال: طاقة من التحدي. عندما قدم الى السويد اختط أولى تحدياته: ترك تخصصه الأصلي (اللغة) ودخل في مجال آخر لم يدرسه من قبل رغم إنه كان على الدوام كامناً في أعماقه، وهو الموسيقى. وبعد تخرجه من معهد الموسيقى دخل تحدياً آخر: تدريب مغنيات اسكندنافيات على أداء أغاني عربية! ونجح بالفعل. وكان ثمرة نجاحه تأسيس فرقة سومر التي طبقت شهرتها الآفاق ودامت 12 سنة. عبر هذه الفرقة صار ينتقل من تحد الى آخر: فجعل مغنيات الفرقة (من السويد والنرويج) يؤدين جميع أطوار الغناء العربي من المحيط الى الخليج، بمختلف اللهجات. ثم فاجأ الجمهور بتحد آخر عندما جعلهن يؤدين أغاني كردية! وعاماً بعد عام ظلت الفرقة تتقدم وتحديات طلال تتصاعد.
كاتب المقال في صورة قديمة مع الراحل
كان حلمه أن تغني فرقة سومر في بلد عربي. وبذل كثيراً من الجهد من أجل تنظيم عرض لها في مصر، لكن جهوده باءت بالفشل. وكم آلمه واقع ثقافي عربي يسرح فيه ويمرح مطربو السطحية ومطربات الاثارة وتنظم لهم الحفلات من بلد عربي الى آخر فيما يتم تجاهل فرقة لها رسالة ثقافية كبيرة في الوحدة الانسانية عن طريق الموسيقى.
كان طلال على وعي كبير بأبعاد عمله الموسيقي، وكتب في ذلك عدة مقالات. كان يعتقد بأولوية الموسيقى على غيرها من الروابط بين البشر. كان يؤمن بأن الموسيقى خير غسول يغسل به الناس في كل القارات نفوسهم من الكره والعنصرية والايديولوجيات وكل أنواع التعصب. بل كان يعتقد أن الموسيقى هي الأصل في الوعي الانساني ابتداء من إيقاع ضربات القلب لدى الجنين ومن تنويمات الأمهات لأطفالهن. وعلى صعيد شخصي كانت الموسيقى دواءه الروحي ليكون كما يريد، محباً لجميع الناس، لا كما أراد له الواقع الذي نشأ فيه والمشحون بالتعصب والكره.
الى جانب الموسيقى ظل ارتباط طلال بالشعر متواصلاً، فهو الخيط الذي يربطه بطفولته وبأكثر المشاعر شفافية. كان شعره غنائياً، لا علاقة له بتعقيدات الشعر الحالي وإنما هو بوح مباشر. وحين اشتد عليه المرض كتب أرقّ قصائده وآخرها: "آخر الأحلام.. آخر القصائد". هي توديع للحياة وعودة إليها في الوقت نفسه. روت ابنته أن والدها جلس أمام جهاز الحاسوب وكتب هذه القصيدة في ثلاثين دقيقة لا أكثر. كانت إذن دفقة من روحه توجب أن تخرج للناس وتبقى من بعده.
توفي طلال يوم الأربعاء 5-12-2012 في مدينة غوتنبرغ.
سمير طاهر
صورة أخرى للكاتب مع الراحل