المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – قصة: ابن خالتي الذي لم أره منذ ثلاثين عاما.. استقبلني في مطار “امستردام” ..الذي دخلته بهوية امرأة شقراء وملابس ليست على مقاسي، رفضت ذلك الفيزون الفضي الضيق وتلك البلوزة القصيرة..وذلك الصندل المطاطي. غضب المهرب وفتح فمه مثل السمكة، حتى رأيت بقايا فليفة حمراء على أنيابه.
ودون فاصل لتغير موجة لطافته، طوى جذعه ورفع ساقه ودس نقودي في شق جيبه، وابتلع آخر قرش أملكه. اقتنعت أنني بهذا الشكل المخلوع سأنجو من “الكنترول” وأدخل الطائرة إلى “امستردام”، استسلمت لتلك الهاوية الأخيرة.
جف ريق الكوافيرة اليونانية، وهي تصب على رأسي خلائط من الأحماض والأصباغ في محاولات يائسة لسحب لون شعري الأسود وصبغه بالأصفر، لكن شعري صار بنفسجي
يشع ويبرق، فخرج لي الحزن واليأس كله، وتركته يقلب ملامحي وقلت له اقلب كما تشاء.
لكن الكوافيرة الفرحة طيبت خاطري، وتلامست مع المهرب في مزحة ثقيلة قرصته وقرصها وخزته بالمشط ووخزها بالمفتاح.
ثم مالت علي وقالت لي:
هكذا ستدخلين الطائرة أنت الآن ألمانية مية بالمية،
وقال المهرب وهو يمسد العامود الفقري للكوافيرة:
قسما بكل الأنبياء أنت ألمانيا قص لصق..
نظرت إلى مرآة الصالون ، كنت مثل لعبة القماش التي كنت اخيطها لبنات الحارة وأبيع الواحدة بفرنكين..شعرت بالتسعيرة البخسة..
لكني فرحت بجنسيتي الجديدة التي منحتني إياها الكوافيرة المطعمة بجنسيات المهربين..ومهرب مرقع بجلود الهاربين…
صعدت إلى باص المطار..والمهرب قفز على “الميتور” واختفى بين أزقة شارع “أخرنون” في مدينة الخيال المشوش “أثينا”.. التي نالها من الحرب السورية قسطا من الصخب وصارت المدينة المفلسة الغارقة في ركودها، معبرا إلى بلاد الراحة الأبدية.
وفعلا تحققت نبوءة الكوافيرة اللذيذة.ودخلت الطائرة مثل اي ألمانية….
أمشي في مطار “امستردام: على رؤوس أصابعي وقلبي يتدحرج بين أقدام المسافرين. .. أنظر خلسة في عيون المسافرين لأتأكد أن الضجيج الهائل في رأسي لم يسمعه أحد غيري.
استقبلني ابن خالتي العزيز، عرفني من الصور التي أرسلتها له، وأنا عرفته من وجهه الأصفر .
سلم علي بيد باردة وكأننا تناولنا العشاء معا قبل ساعتين، ودون طقوس الإستقبال التي اعتادت المطارات عليها، اقتربت كي أعانقه وأبكي على بداية النهاية لسفر سنة، مت خلالها أكثر من مرة، وعدت للحياة بقدر متردد.
رفيق طفولتي الذي غاب عني وعن أهله ثلاثة أرباع عمره، تجاهل ذراعي وانحنى ثم سحب الحقيبة، ومشى أمامي مسرعا تهتز مفاتيح سيارته على خصره، يجر حقيبتي البائسة بدولاب واحد، والدولاب الآخر كسرته دروب الهجرة، يجرح أرض مطار “سخيبول” الناعمة.
همد كل شيء، أهرول وراء ابن خالتي المستعجل، وأحدق بخلفيته وهو يعدو مع حقيبتي العرجاء نحو بوابة المطار، وأنا وراءه أجر قدمي المصابة بكسر بدأ يفتك بكاحلي، ومضيت وراء قميص قريبي المشجر بالأحمر والأخضر ..
بلحظة لم يعد دخولي بطريقة غير شرعية يهم سكان المطار، حتى ثيابي الفاضحة والمخجلة التي ألبسني إياها مهرب “أثينا” لا تثير فضول أحد.
لا شيء هنا يدعو للهواجس..أين هواجسي ذهبت ؟ خفت أن افقدها واكف عن القفز على حواجز الهجرة القاتلة ،حتى أن هناك عاشقين يتبادلان القبل بدموع ناعمة ووداع ثقيل، ربما اللقاء بعد هذا النحيب سيكون طويلا، تمهلت لأرى حزنا يشبه حزني .
التفت ابن خالتي ونهرني وأشار إلى كي اتبعه، وتساءلت وأنا أعدو وراءه هل هذا نبيل؟! أم أن رجل آخر تطوع كي يأخذني من المطار؟! . منذ متى أصبح شعره أحمر، لا يوجد في عائلتنا كلها خصلة شقراء واحدة، نحن من سلالة أفريقية، كما قال لنا جدنا الأول، والغريب تلك الكثافة بغرته الواقفة لسبب أجهله ربما يضع شيء من الزبدة الهولندية. لقد كان من أول شبابه نصف أصلع وما تبقى من شعره مثل زغب الزغاليل، من أين اتى بهذه الغزارة الخشنة؟؟؟
والذي فاجئني أكثر من شقاره مؤخرته التي اختفت من سرواله ..تعجبت لفقدان مؤخرة ابن خالتي، لقد كنا ونحن في أول الصبا نهزأ من نصفه السفلي الذي يشبه فتاة سمينة، وقد تأخر قليلا حتى حلق ذقنه، وكنت دائما أسأله هل تشعر بمغص في بطنك يا ابن خالتي؟! ..يستغرب من سؤالي ويقلب شفته ويؤكد أنه لا يعرف وجع البطن أبدا ، ولم ينتبه لسؤالي الخبيث، فقد كنا نظن نحن بنات العائلة أنه سيتحول في يوم إلى بنت مثلنا..وسميناه بالسر “فلة”
لم يكن أبدا من جلس في مخيلتي كل هذا الزمن، وقد مر ما يقارب عشرين عاما لم يمشِ خطوة واحدة في ذاكرتي، إلا حين ماتت خالتي، أتى بذات الليلة، ونظر مليا إلى وجه أمه في براد مشفى الموساة، وفي اليوم الثاني لمحته بين المشيعين قرب الجامع، يعقد يديه و يلبس نظارات داكنة، ويحدق في الأرض كأنه يبحث عن شيء ضاع منه.
ثم بعد ساعتين من الدفن غادر البلد بطائرة عابرة.
قطع علي ذاكرتي المشتتة،
وقال لي يجب أن أسلمك إلى كمب “تير آبل”
وقع قلبي من الخوف، فكلمة أسلمك يعني بوليس، وأنا اخاف حتى الموت من البوليس ..
نزل غضب ابن خالتي علي، وقال لي:
– وين مفكرة حالك بالشرق الأوسط؟!!
أول مرة أعرف أني كنت أعيش في الشرق الأوسط، كنت أظنها تقال فقط في..نشرةالأخبار..
وافقت على كل ما يريده كنت مثل طفل ضائع بسوق النحاسين، لا أفهم كلمة مما يقول، وبدأ يذكرني بالمحطات والرصيف وتغير القطارات ويلوح بيده، ويشرب من قنينة الماء المشكوكة كالخنجر في حزامه …وأنا عيني على غرز الشعر المزروعة تحت جلد رأسه..
صرخ نبيل.. صوتا لفّ أعناق المسافرين في محطة القطار.
قال لي: أياك أن تضيعي لا تشغلي بالنا… وين شاردة؟!
بدأت اضيع من لحظتها.
-انتبهي..
ابن خالتي يعطيني إرشادات وقوانين القطارات، وانا فقط أوافق وأدعي الفهم، لكن لم يصلني إلا طقطقة أسنانه الخزفية، وكانت عيني تتجول في مكان آخر تماما..
وصل القطار ..أمسك نبيل يدي وشد أذن الحقيبة..وساعدني في الصعود إلى القطار . وقف فرحا، فقد تخلص مني ومن تربعي على كنباياته العريضة.
.لوحت لابن خالتي، ومضى بي القطار إلى المجهول.
المراعي الخضراء تنفرد أمامي، والأبقار المبرقعة المسالمة تستلقي على خضرتها، بلا هم ولاخوف، لو استطيع أن استلقي هناك على العشب بجانب تلك البقرات السعيدات.
على الطريق انتصبت تلك الطواحين الهولندية الشهيرة، اندهشت قليلا أني رأيتها بصدفة الحرب.
لم أكن أفكر يوما ببلد اسمها هولندا ولا خطرت بأوهامي ولا بأحلامي، كل ما أعرفه عن هولندا معلومات طفيفة ، أعرف أنهم ردموا ماء البحر وصارت أرضا خصبة تزرع وتقلع، يعني الهولندين بلطوا البحر.
وإن فريقهم الرياضي يصل نهائيات كأس العالم ولا يفوز، ولم أكن متأكدة أن هناك ملك برتقالي..
الطواحين القديمة فقط هي التي تعرفت عليها ..كانت طواحين جميلة وكئيبة، حزنت عليها، أحسست أن تلك الطواحين تشبهني في وحدتها، لا شيء هنا يمت لي بصلة، تأملت السهول الخضراء بلانهاية…
وتذكرتك ثم استحضرتك …جلس خيالك جانبي بالقطار، وضعت يدك على كتفي، سحبت تلك البكلة السوداء.. وبدأت تسرح شعري، وأنا اتكأت على إفريز النافذة الباردة .. همست لي لماذا ابتعدت اقتربي.. لم أسمعك..
قلت لي
– مي لاتنامي كي لا يمضي بك القطار إلى ما لا نهاية، وقفت بكامل بهاءك.. قبلت رأسي وأعطيتني وجع الفراق، وغادرتني بمحطة قبل محطة “تيرآبل” .بزمن لم أعد احتمله.
تمت
مي جليلي