المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – مقالات الرأي: يعرف الكثيرون قصة الفيلسوف سقراط، الذي حُكم بالإعدام ورفض الاعتذار وحتى الهروب حين استطاع تلامذته أن يدبّروا له ذلك؛ تجرَّع السُّم تنفيذاً لحكم الإعدام الذي أصدره دواعش ذلك العصر.
الحوارات و الأفكار التي كان يقول بها أشعرتهم بالخوف و القلق؛ هذا الشعور القاتم قال عنه برتراند راسل بعد 2500 عام: “الخوف هو المصدر الأساسي للخرافات، و أحد أهم مصادر القسوة، لذا فالانتصار على الخوف هو بداية الحكمة ” . لماذا لم يخَف سقراط من ألم الموت ؟ هم خافوا من حوارات حول المعرفة الإنسانية ! لأنَّ الخوف يمجد العنف والظلم والجهل و التخلف.
الخائف كسول و ضعيف لا يقوى على الحوار! ولايكلّف نفسه مشقّة قبول الآخر فقبول الآخر لايُختصر بالابتسامة البليدة و بكلمات المجاملة السطحية الخالية من الإحساس و المشاركة الإنسانية؛ قبول الآخر عمل جدّي و تقني، عمل نفسي و روحي. إنَّ الخوف برنامج تربوي يمارسه العقل الجمعي على الفرد كنتاج تاريخي لمجموع القيم و الأعراف من غير وعي ولكن بدقة متناهية، يمارسه على الطفل بدايةً طالباً منه ليس الطاعة فقط و إنما تقديس مفهوم الطاعة للأب و الأم و الجدّ و الأعمام كمجموعة أساسية في سلّم الطاعة و الخوف؛ فهم من سيختارون نوع الدراسة أو العمل و إن كانوا أمييّن لا يجيدون القراءة و لا الكتابة. دائماً ما يُقرأ الحاضر و المستقبل بأدوات الماضي! وعادة ما يُطلق المجتمع الخائف كلمة رنّانة على هذا السلوك واصفاً إياه ب “الحكمة” و “الخبرة”؛ طبعاً لا يمكن نفي الحكمة عن البعض و الخبرة عن الغالبية و لكن استخدامهما بقسوة و عنف يُحبط أي مبادرة ويصيب الشباب بالعجز؛ ولا يتم الإكتفاء بالطاعة للمجموعة الأساسية، فالمجموعة الثانية -العشيرة، الطائفة، القومية- تتمتّع بسلطة عقوبات أقسى و أشد إيلاماً على الأفراد إذا ما تمردوا أو فكروا بذلك؛ وفي معظم الحالات يقع الطفل الذكر بين براثن أفكار ومواهب والده التي قد تكون معدومة! لكنه يعمل بجدّ على إعادة إنتاج نفسه عبر أبنائه الذكور، ولايهم حتى إن كان الإنتاج رديئاً ، المهم هو هذا التكرار المتواصل من الخوف المتراكم؛ أول مهام هذا الكائن الخائف بعد مرحلة الطفولة هي ممارسة خوفه على الأنثى التي يريد الارتباط بها! – رغم أن الناس عموماً تنجذب إلى الأشخاص الذين يختلفون عنهم جزئياً أو كلياً من الناحية الجسدية (لون، طول، حجم… ) – لكن حين تدخل حيّز سلطته يرى أنه لا يكتمل ولا يتحقّق ككائن بشري إلا بجعلها نسخة عن مجمل مخاوفه، حاصلاً على الدعم من محيطه ومحيطها، من المجلات و البرامج التلفزيونية و المسلسلات الدرامية و رجال الدين! فلا يكفي أن تكون مطيعة بل عليها أن تجيد الطاعة و أن تحتشد فيها آفات الخوف و تتحول إلى شريكة في إنتاج جيل جديد مع الكثير من الخوف و القليل من الحب، لتظهر سلوكيات و تعبيرات متفاوتة الشدّة على شكل اضطرابات نفسية و سلوكية مثل الخجل، العنف ، الاضطرابات الانفعالية، اضطرابات التفكير، الاكتئاب، ضعف الذاكرة، الوسواس القهري.
هناك قاعدة ذهبية يردّدها علماء النفس الاجتماعي: “الأشخاص و المجتمعات المحققون لذاتهم هم أكثر تقبلاً للآخر و أقل ميلاً لإطلاق الأحكام على الآخرين ” ؛ هذا حتماً لا ينطبق على المجتمعات التي تكتفي بدور المستهلك الضعيف و المتفرج المهزوم! و عادة ما يحقق الخوف شروط الفناء و الإندثار للمجتمعات عبر التاريخ، فالعنف و الظلم و الجهل كفيلون بأخذ هذه المجتمعات إلى الفناء! و الخرق لهذه الحتمية هي في الوصول للآخر بعقل و قلب مفتوحان، ومعرفة الآخر لا تعني التلصّص و لا التعدي على الحرية، و اقتحام حدود الأنا، وإنّما الانفتاح الواعي و المقصود على الأفراد و الجماعات بوصفهم مغايرون أصلاً؛ فمفاهيم مثل: (أنا وهو)،(هم ونحن) يمكن أن لا تكون معيقة و سلبية فلكل موقعه وتموضعه، فالهدف الحقيقي هو إجلاء الغموض و زعزعة الأفكار المسبقة والخرافات عن الآخر أفراداً و جماعات شركاء في الوطن كانوا أم أجانب.
ويرى البعض متفائلاً أن ما وصلت إليه ثورة ” السوشيل ميديا ” سيكون من أسباب تحقق الأفكار المرجوة، فقد بدأ العديد من الناس على تويتر و فيسبوك استخدام عبارات رصينة و إيجابية واضحة أساسها السؤال و الرغبة في المعرفة و الفهم، طبعاً مع وجود التعصّب و الرداءة والبذاءة والشتم و الخصومة التي تحتلّ المساحة الأوسع في وسائل التواصل الاجتماعي حتى الآن؛ لكن أيضاً تنتشر قيم الجمال و الحب و الموسيقى و الشعر و الفنون النبيلة التي ستطرد رويداً رويداً أشكال القبح و التشدّد و الانغلاق والغرور؛ أي كل ما ينشأ من الخوف.
لهذا فإنَّ الحوار و قبول الآخر من أكثر السلوكيات إجهاداً و مسؤولية.
أخيراً أتذكّر قول سارتر: “أنا لو أردت أن أعرف شيئاً عن نفسي فلن استطيع القيام بذلك إلاعن طريق الآخر”.
أسامة شاكر
السويد