لماذا السويد؟!

: 10/9/14, 11:40 AM
Updated: 10/9/14, 11:40 AM
لماذا السويد؟!

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – مقالات الرأي: ثمة أسباب كثيرة عامة تدفع دول الاتحاد الأوروبي عموما لاستقبال المهاجرين، بدءا من سياسة التنمية البشرية والحاجة إلى اليد العاملة وليس انتهاء بالدوافع الإنسانية، ولكل دولة من دول الهجرة أسبابها الخاصة أيضا، وقد برزت السويد كدولة هجرة سواء لناحية عدد المهاجرين أو لناحية القوانين الخاصة بالمهاجرين، ولكن ما هو الفريد والمتميز في تجربة السويد مع المهاجرين؟.

الكومبس – مقالات الرأي: ثمة أسباب كثيرة عامة تدفع دول الاتحاد الأوروبي عموما لاستقبال المهاجرين، بدءا من سياسة التنمية البشرية والحاجة إلى اليد العاملة وليس انتهاء بالدوافع الإنسانية، ولكل دولة من دول الهجرة أسبابها الخاصة أيضا، وقد برزت السويد كدولة هجرة سواء لناحية عدد المهاجرين أو لناحية القوانين الخاصة بالمهاجرين، ولكن ما هو الفريد والمتميز في تجربة السويد مع المهاجرين؟.

وبعيدا عن السياسة الحكومية المنتظمة ضمن قوانين تخضع للتطوير تبعا للحاجة، هناك الحالة الشعبية المتميزة، وبغض النظر عن بعض الاستثناءات العابرة بالعموم الشعب السويدي شعب يحترم ويقدر لا بل ويرغب باستقدام المهاجرين، وفي الحديث مع الكثير منهم تشعر أن هذا الشعب يقدر ويعرف معنى مأساة الهجرة، ولديه حنين دفين ودفئ كبير قد لا يعبر البعض عن أسبابه.

ويبدو أن هذا الحنين وتلك الشجون تعود للعام 1800، حيث كثر عدد الفقراء في السويد وساءت أحوال الناس، إذ ضرب الجفاف البلد التي كانت تعيش ضمن نمط زراعي، فشحت المواسم واختفت فرص العمل، واشتد البرد ولم يكن لدى الناس حتى القدرة على شراء الملابس، ولم تكن لديهم القدرة على إطعام أطفالهم، فمات الكثير من الأطفال بسبب سوء التغذية والرعاية الطبية، مما دفع الناس إلى التفكير بالهجرة نحو أمريكا، وما بين عام 1850 وعام 1920 هاجر حوالي مليون سويدي طلبا للعيش وفرص العمل، وعادل ذلك أكثر من ربع الشعب السويدي أنذاك، وما زالت موانئ ستوكهولم ومالمو ويوتبوري تذكر قصص المهاجرين الذين انتقلوا منها عبر البحر إلى بريطانيا، ومنها عبر الأطلسي إلى أمريكا، مستقلين قوارب وسفن صغيرة ليست بأفضل حال من القوارب التي تنقل المهاجرين اليوم من الشرق الأوسط نحو أوروبا، وقد عاش السويديون ذات المأساة، وهناك الكثير من القصص التي تروى عن هجرة السويديين إلى أمريكا، وقد يكون هذا الشعور الدفين بنفوس السويديين بالمأساة التي حلت بشعبهم يجعل الناس هنا أكثر تعاطفا مع قضية الهجرة، وكثيرا ما نسمع بمصطلح " المسؤولية الأخلاقية وعدم ترك الناس يموتون في البحار".

ولكن كيف تحولت السويد في غضون سبعة عقود من بلد يهاجر منه الناس إلى بلد يقصده الناس ؟ .. وللتوضيح لا بد من خلفية تاريخية .. لقد أصيب العالم بالذهول جراء انهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومة الدول الاشتراكية، الأمر الذي دفع الكثير من المفكرين بطرح سؤال كيف يمكن تحقيق نظام العدالة الاجتماعي، وما هو نمط الاقتصاد الأنجح، وأيهما أفضل نظام اقتصاد السوق ونظام الملكية الخاصة والفردية، أم النظام الاشتراكي ونظام الملكية العامة، أم النظام المختلط، وغيرها من الأسئلة حول النظم السائدة في العالم … وأنذاك كنت في موسكو أدرس البروسترويكا واستمعت إلى الكثير من النقاشات التي كانت تدور بين المفكرين وعلماء الاقتصاد، ومن أعقد الأمور مدار البحث تمحورت حول سؤال كيف يمكن التصرف بفائض القيمة ضمن اقتصاد السوق ، والحد من الاستغلال الاجتماعي والتحول الرأسمالي نحو الإمبريالي … وفي غمرة النقاش المحتدم أشير أكثر من مرة إلى التجربة السويدية كتجربة ديمقراطية اشتراكية ناجحة تحقق نظام عدالة اجتماعي وبذات الوقت تبيح التجارة الحرة واقتصاد السوق والملكية الخاصة، وتمنع نمو فائض القيمة لدرجة يحدث معها الاستغلال والتغول الرأسمالي، كما أشير إلى نمط تفتيت الثروة في الإسلام كنمط مشابه للتجربة السويدية، حيث اعتبر نظام الإرث في الإسلام من أكثر الأنظمة فعالية في تفتيت الثروة وتوزيع فائض القيمة بشكل عادل، وهذا إلى حد ما نظام مشابه للنظام الضريبي في السويد وهو من أعقد الأنظمة الضريبية في أوروبا.

السويد كدولة مواطنة وكدولة حققت منزلة هامة في نظام العدالة الاجتماعية، تحتل المرتبة الأولى في العالم في مؤشر الإيكونوميست للديموقراطية، والسابعة في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية. ولكن السؤال لماذا السويد دون غيرها؟

السويد لم تعش التجربة الإقطاعية بذات الحدة التي عاشتها أوروبا، وتجاوزت نظام العبودية المختلط بنظام الإقطاع الأوروبي، وحتى مع صعود التصنيع ظلت السويد أقرب إلى نظام المشاع التبادلي الزراعي البسيط، بينما شهدت الصناعة تطورا طبيعيا فيها بعيدا عن نظام الطفرة الذي أحدث عملية تحول قسري من الإقطاع الأوروبي نحو نظام الاستغلال الرأسمالي، ، كما انتهت أثار العبودية مع انتشار المسيحية، وألغيت العبودية نهائيا في السويد بمرسوم أصدره الملك ماغنوس أريكسون عام 1335، ومع ذلك ظلت السويد فقيرة اقتصاديا وامتد نظام المقايضة لأمد طويل، فكان المزارعون من مقاطعة داسلاند ينقلون الزبدة لمناطق التعدين، ويبادلونها بالحديد، ثم يبادلون الحديد بالسمك في المدن الساحلية لتشحن لخارج البلاد. برزت السويد كقوة أوروبية كبرى خلال القرن السابع عشر، ولكن قبل ظهور الإمبراطورية السويدية، كانت السويد فقيرة جداً وبالكاد مأهولة بالسكان. وبرزت السويد في عهد الملك غوستاف أدولف الثاني.

مرت السويد كسائر الدول الأوروبية في مراحل المد الثوري للأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بيد أنها لم تتأثر بمسار الأحداث العاصفة فترة الحروب والتي أثرت بدورها على اتجاهات التطور تبعا لموقف الأحزاب الاشتراكية من الحروب، حيث أيدت الكثير من تلك الأحزاب مواقف بلادها من الحروب، كما أنها أي التجربة الاشتراكية السويدية لم تمر بالمسار الدموي الذي نقل الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي نحو البلشفية الشيوعية، وبذات الوقت لم تشهد احباطات التجربة التي حصلت في كل من ألمانيا وفرنسا، والسبب أيضا يعود إلى أن آخر الحروب التي خاضتها السويد بشكل مباشر كانت في عام 1814، عندما أجبرت السويد النرويج بالوسائل العسكرية على عقد اتحاد شخصي استمر حتى عام 1905. منذ ذلك الحين والسويد في سلام، في زمن الحروب كانت السويد رسمياً على الحياد خلال الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، حيث وقعت السويد تحت النفوذ الألماني لفترة طويلة من الحرب.

وفي فترة ما بين الحربيين مرت التجربة الديمقراطية الاشتراكية في السويد بمرحلة تطور طبيعي، على خلاف التجارب الأوروبية الأخرى، التي وقعت بين تطرفين تطرف الفاشية من جهة والستالينية من جهة أخرى، والأمر الذي عزز التجربة السويدية هو أن انهيار سوق الأسهم عام 1929 أدى إلى أزمة اقتصادية انتشرت من أمريكا إلى أنحاء العالم، وعرفت بفترة الكساد الكبير، حيث تفشت البطالة وانخفض معيار الذهب، فقررت الحكومات التدخل في الاقتصاد، لتحقيق استقرار بالأسعار، وتعززت رؤية الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية المبنية على مبادئ دفع الاستثمارات في البنى التحتية للحد من البطالة، وخلق نوع من الرقابة الاجتماعية على تدفق الأموال، فضلا عن ضرورة التخطيط الاقتصادي، وفيما باءات محاولات الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية بالفشل نتيجة عدم الاستقرار السياسي في العديد من البلدان خاصة ألمانيا وبريطانيا، غير أن الديمقراطية الاشتراكية واصلت صعودها في السويد كمسار طبيعي، فبرز كارل هايلمار برانتينخ رئيس وزراء السويد في الفترة الممتدة من 1920 حتى 1925 ، حيث حققت الأحزاب الديمقراطية الاشتراكية صعودا كبيرا في الدول الاسكندنافية، خاصة الحزب الديمقراطي الاشتراكي السويدي الذي حصد أغلبية الأصوات في انتخابات 1920، وشكلت الحكومة المنبثقة عنه ما عرف (بلجنة التشريك) التي أيدت الاقتصاد المختلط الذي يجمع ما بين المبادرة الخاصة والملكية المجتمعية، ووافقت اللجنة على تشريك جميع الموارد الطبيعية، من المؤسسات الصناعية والإنمائية، والنقل وطرق المواصلات، التي وضعت خطة لنقلها بشكل تدريجي للدولة مع السماح بالملكية الخاصة خارج هذه القطاعات… وانطلقت التجربة بنجاح كبير وبدأت السويد تتحول من دولة فقيرة يهاجر منها الناس إلى دولة نموذجية يهاجر إليها الناس. ومع هذا التطور بدا النظام الضريبي الذي ينظر إليه في العديد من الدول على أنه نظام تقشفي يعاقب الناس، بدا في السويد كنظام ضامن للرفاه الاجتماعي وللقطاع الخدمي الذي اتسع بشكل مدهش.

مصطفى قاعود

كاتب وباحث فلسطيني – السويد

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.