المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – من يعزيك يقول لك : ان الموت حق . لكننا ننسى ان نقول ان الحياة حق. كلا الظاهرتين الكونيتين : الميلاد والموت حق. لكننا ننسى ان الحياة حق كما هو الموت. مات اخي الكبير ابو محمود لان الموت حق. وماتت امي قبل ذلك لان الموت حق. ومات والدا زوجتي ندى الهاشمي لان الموت حق. لكن حياة كل منهم لم تكن حقا.وحين نكون في منفى يكون الموت قد فقد جزء من حقه.لانه سلب حق الحياة من المنفيين.
كنا ممنوعين من دخول الوطن طوال فترة معارضتنا. وكان نبأ الموت يأتي بعد اشهر او بعد سنوات. وحين يأتي بعد ايام يكون الموت قد انصف حزنك واعطاك جزء من عدالته لتقيم مأتما لاحزانك.
لماذا يصر المنفى على ان يمدد اقامته في حياتنا ؟ كلما يموت انسان عزيز في الوطن يمتد المنفى ويمدد اقامته في قلوبنا وذاكرتنا ويبعد الوطن اكثر فاكثر ويجعله حلما بعيد المنال. حق الموت هذا صادر حق الحياة فينا. لا نلتفت الى جهة من جهات الارض الا ورأينا الاهات والانات تتصاعد مثل دخان بيت يحترق.
في عام2001 تلقيت نبأ وفاة امي، وقف الصديق الشيخ سامي عزارة بجانبي في المأتم مستقبلا ومودعا المعزين. لا انسى له ذلك الموقف الذي يعيد نفسه في ذاكرتي وحياتي. فجأة اسرني بشئ كان يلوي قلبه آنذاك ونحن نبتعد اكثر عن الارض التي ولدنا عليها. قال : امك اسعد منا، فقد ماتت على ارضها ودفنت هناك. كان صوته ملتاعا وهو يفكر بحق الموت بعد ان فقدنا حق الحياة. في احيان كثيرة يفقد حق الموت معناه كما فقد حق الحياة معناه ايضا.
لماذا يصر المنفى على ان يمدد اقامته في حياتنا ؟ كلما يموت انسان عزيز في الوطن يمتد المنفى ويمدد اقامته في قلوبنا وذاكرتنا ويبعد الوطن اكثر فاكثر ويجعله حلما بعيد المنال..
علمونا التفكير بالوطن بطريقة بشعة وقمعية. علمونا شعار كيف نموت ويحيا الوطن. لكن مالذي يفعله الوطن بعد موت ابنائه؟ ماذا تعني الارض اليباب؟ يتعلق الانسان بوطنه حين يعطي الوطن لهذا الانسان حق الحياة وحق السعادة وحق الامان وحق السكن وحق الكرامة وحق الطفولة وحق الشباب وحق الكهولة وحق الشيخوخة قبل ان يعطيه حق الموت وحده. او حق النفي والهروب.
في حملتي الانتخابية التي لم افز بها لاسباب كثيرة تتعلق بي وتتعلق بسرقة اصواتي ايضا وسرقة حقي فيها، رفعت شعار( نعيش لكي يحيا الوطن) . لكن احدا لم يكن معنيا بهذه الحياة من العراقيين الذين مايزالون يهيمون في وجوههم في وطن لم يعط كثيرا حتى حق الموت. فالقتل ليس الموت حق. والاغتيالات ليست الموت حق. والفقر ليس الموت حق، والعيش في المجهول انتظارا لموت ليس حقا يشبه عملية التخدير استعدادا لاجراء عملية قد لاتحقق الحياة وانما تجعل حق الموت هو الوحيد الذي يحصل عليه المريض.
كل الاوطان يموت فيها الناس. لكن العراق ليس وطنا اصلا لكي يكسب فيه الناس حق الموت بعد ان فقدوا حق الحياة.لست متشائما ولكني حزين. لست وحدي ولكني وحيد. كان الاستسلام ومايزال احد اسباب حق الموت. لقد استسلم اخي اخيرا وقد رأيت استسلامه اخر مرة رأيته فيها في العام الماضي.لم يعد يهوى الحياة في وطن لاحياة فيه.كان وسط ابنائه واحفاده يسير مستسلما يقطع حبال التعلق بالحياة واحدا بعد الاخر. ليس من الغريب ان يموت الانسان ولكن من المحزن ان يموت وهو يرغب ان يغادر الوطن الذي لايرغب باقامة ابنائه على ارضه فلا يوفر لهم غير اقامة مؤبدة تحت الارض.
الحياة السوداء،، الموت الابيض
جلست في مأتم امي محاطا بالسواد. كان سواد المحرم ذلك العام. في مركز اهل البيت في لندن وجلست قبل يومين محاطا بالسواد في مأتم اخي الكبير خوام ياسين. كان سواد المحرم في مؤسسة الخوئي في لندن. لماذا لايكون العراق وطنا للحياة ؟ لانه وطن لايصلح حتى للموت. ملايين تعزي انفسها بارض الانبياء والأئمة. لكن من من أؤلئك الانبياء والأئمة استحق حق الحياة لكي يستحق حق الموت؟ ادم؟ ابراهيم؟ نوح؟ علي؟ الحسين؟ الكاظم؟
طرد آدم من الجنة، وهرب ابراهيم من اور الكلدانيين. واذا كان الشيعة يرددون في زيارة الامام علي :السلام عليك وعلى ضجيعيك آدم ونوح، فان نوحا اصيب بكارثة عائلية: لقد فقد زوجته وابنه بعد ان شقا عصا طاعته ، وهي رزية تجعل من الحياة والموت مأساة متداخلة.
قتل علي في محرابه بعد ان عاش وهو يؤسس بدمه المهدور في ميادين بدر وخيبر واحد والخندق وغيرها مؤسسة للعدالة والمساواة والانسانية والمواطنة المدنية انهار لان حق الموت تغلب على حق الحياة.وصار العيش في الوطن مقدمة طويلة للفصل الاول والاخير من الكتاب البشري، حيث يختصر معظم العراقيين حياتهم بالايمان بحق الموت عليهم. لايوجد شعور بان الحياة حق هي الاخرى، وان هذا الحق يتطلب ان نعيش الحياة بكامل قواها ، وان لايكون المنفى طعنا لهذا الحق كما يكون الاهمال البشري طعنا بهذا الحق هو الآخر.
كم من العراقيين من يشعر انه لايعاني الاهمال؟ سوى عدد قليل من الاغنياء والمسؤولين، يوجد ملايين العراقيين الذين لايحصلون على حق الكرامة ولايحصلون على حق العدالة…
كم من العراقيين من يشعر انه لايعاني الاهمال؟ سوى عدد قليل من الاغنياء والمسؤولين، يوجد ملايين العراقيين الذين لايحصلون على حق الكرامة ولايحصلون على حق العدالة ولايحصلون على حق العافية في نظام صحي متطور وانساني كما لايحصلون على حق السفر في نظام مواصلات قانوني اذ اتذكر اني عدت من السماوة الى بغداد فجرا ، وانا اعد لقائمة انتخابية هناك فشلت ولم تتأسس عام 2009 ان العراق مركبة تسير باقصى سرعتها في ظلام دامس لا اضاءة فيه ولا اشارة مرور ولا علامة تريك اين وصلت وكم تبقى لك من الطريق فادركت كم هي مهمة المطالبة بحقوق الانسان وكم هي مهمة المطالبة بان يسعى للحكم ناس يشعرون بانهم بشر حتى يستطيعون ادراك حقيقة ان الاخرين هم بشر.
لم اعد اتفاجأ او اندهش. ليس لان الحياة ليس فيها مايدهش، ولكن لان مايحدث اخذ يتكرر بحيث لم تعد هناك قيمة للمفاجأة او الدهشة. اقرأوا هذا الخبر: المالكي: توجد عقليات بعثية تمارس التعذيب في السجون لكن الحكومة لاتتبنى هذه الممارسات.نعم، توجد عقليات وممارسات بعثية بالمعني الاصطلاحي ، كما نقول توجد عقليات وممارسات نازية وفاشية، بمعنى ان الذين يمارسونها ليسوا اعضاء بالضرورة في احزاب نازية او فاشستية. ولذلك حين نقول عقليات بعثية فاننا نفهم ان هذه العقليات قد لاتكون جزء من تنظيمات البعث، وانما جزء من عقليات وتنظيمات احزاب اخرى تتبنى سلوك وافعال وممارسات البعث. لكن الغريب ان الحكومة تريد ان تنأى بنفسها عن هذه الممارسات وكأن الذين يمارسونها من دول اخرى وحكومات اخرى. فهل يعقل ان يكون واجب الحكومة هو تشخيص هذه الحالات والاعتراف بها فقط دون ادانتها وتقديم الفاعلين الى العدالة؟ ولماذا توجد في حكومة ديمقراطية ممارسات وعقليات بعثية تمارس التعذيب وتكرس مقولة: الموت حق؟ انه تصريح يحتاج الى توقف قانوني عميق.واول سؤال في هذا التوقف هو لماذا لايعمد رئيس الوزراء الى تقديم ممارسي التعذيب الى المحاكم بناء على نص المادة 37،اولا، ج، التي تنص على( يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية) اضافة الى مواد اخرى مثل المادة 19 ثانيا، ورابعا، وسادسا وثاني عشر. والتي يفترض ان تكون جزء فعلاا من الدستور الذي تنتقي الجكومة والاطراف السياسية الاخرى مايحلو لها منه وتخوض صراعهاتها باسم دستور متوقف عن الحياة وله حق الموت فقط، بدليل ان معتقلا يفجر نفسه في سجن التفسيرات دون ان يتم التحقيق وتنفيذ العقوبة بمن سمح بادخال المتفجرات وقبض عليها ثمنا مكرسا حق الموت وملغيا حق الحياة.
لم يعد الوطن قادرا على اقناعنا باحقيته للحياة. لم يعد لنا اصلا. في عام 1998 كتبت ديواني صهيل في غرفة الذي صدر في القاهرة في 2002. كتبت فيه: في بلاد لم تعد لاحد منا. واليوم يصدق هذا القول علينا جميعا، حتى على اؤلئك الذين يقودونه الى المحرقة بقتلهم وفسادهم وصراعاتهم وجهلهم واميتهم ووقاحتهم وفرعونيتهم وحقدهم وسرقاتهم وانعدام ضمائرهم. فلو كان الوطن لهم لما فعلوا به مايفعل الجلاد بضحيته ومايفعل القاتل بمقتوله.
حق الحياة وحق الموت بين العرب والاكراد
في المنفى دفنا قتلانا ممن جاءهم حق الموت ولم يحصلوا على حق الحياة. دفنا سياسيين وشعراء وادباء وصحفيين وفنانين، دفنا شمران الياسري في بيروت، وعامر عبد الله وصالح دكلة وثابت حبيب العاني وبلند الحيدري وزاهد محمد في مقبرة هاي غيت قرب قبر مارسك وتمثاله الابيض. ودفنا الشاعرشريف الربيعي وزوجته الاديبة تحرير السماوي في جزء من مقبرة بريطانية اعطوه للمسلمين وبعظهم ظل بلا قبر ولاشاهدة. ودفنا الدكتور عبد الامير علاوي ورشدي الجلبي في مقبرة ووكينغ خارج لندن فيما حلم آخرون ان تعود جثامينهم لبلادهم لتشم عطر الارض التي ولدوا عليها لكن مقولة الموت حق لم تعد ذات معنى وطني وانساني اذ تحولت الى اداة قمع سياسي وثقافي ونفسي. لقد حاول صدام، ذات مرة، ان يوحي بان له من الانسانية ما يحثه على السماح لجثمان الملا مصطفى البارزاني ان يدفن في العراق.لقد سلبه حق الحياة ومات البارزاني في المنفى فكان الموت عليه حقا بدون ان يحصل على حق الحياة في وطن يعطيه حقوقه.اليوم نتنازع مع الاكراد حول حق الحياة وحق الموت ايضا. في اي ارض يعيشون وفي اي ارض يموتون؟ثم يصرخ بنا مؤمنون بان الانسان لايملك اخيرا من ارض الكرة الارضية سوى مترين . تحت الارض وليس فوقها. ومع هذا فان العرب في العراق لم يحصلوا على حق الحياة فالمشكلة ليست في الصراع القومي او الديني او المذهبي او السياسي . المشكلة هي في الاعتراف بحق الحياة مثلما يتم الاعتراف بحق الموت.
هناك خطأ فادح يكمن في اننا لانؤمن بالحق اصلا. وهذا يعني ان معظم الناس لايؤمنون بالله رغم صلاتهم وحجهم وصومهم ونفاق اكثرهم.لان الايمان بالله هو الايمان بحق الاخرين.فالله اعطى حق الحياة وحق الارض وحق الاقامة عليها واعمارها. اليس هذا مايقوله المؤمنون؟ اذا كان هذا مايقولنه فلماذا يبطلون الحق الذي قال عنه علي قولا قال هيغل اقل منه وقال لوك اقل منه وقال كثير من الحقوقيين اقل منه، خاصة اؤلئك الذين يؤمنون بسقوط الحق بالتقادم. قال علي: الحق لايبطله شئ. قال قوله هذا ومضى تاركا كثيرا من شيعته يبطلون الحق ويصرون على ابطاله.
لم اعد اتفاجأ او اندهش. ليس لان الحياة ليس فيها مايدهش، ولكن لان مايحدث اخذ يتكرر بحيث لم تعد هناك قيمة للمفاجأة او الدهشة.…
الجنسيتان ومطاردة حق الحياة وحق الموت
من هذا الذي يهرف بما يعرف ويرفع صوته شاتما من يحملون جنسية لجوء بلد اوربي ناعتا اياهم بمصائب حملة الجنسيتين. صدقوا انها دعاية صدامية سواء جاءت من اسلامي او يساري او قومي او غير بعثي. لان العقلية التي غذاها صدام منذ رفع شعاره ضد المعارضة (الذين يقتاتون على فتات موائد الاجنبي)، والحال ان الكاتبة تحرير السماوي التي توفيت في مطلع عام 2009 مايزال قبرها غير مبني ودون شاهدة سوى خشبة متهرأة تحمل اسمها.
من طرد او اجبر العراقيين الى منافي اللجوء في نهاية السبعينات؟
اقول لكم قصة الجنسيتين. بعد ثورة 14 تموز هاجر انصار الحكم الملكي من وزراء وتجار كبار وسفراء وموظفين كبار الى خارج العراق ، ثم هاجر عدد من الشيوعيين بعد انقلاب شباط 1963. حتى ذلك التاريخ كانت الموجتان صغيرتين وكان الحصول على جواز عراقي معقدا. لكن الهجرة الاولى الاكبر كانت بعد عام1978 حين انشب نظام صدام انيابه باجساد الشيوعيين واجساد الشيعة الذين حمل كثيرا منهم الى خارج ارض وطنهم بحجة التبعية الايرانية ممهدا للحرب الطويلة مع ايران.
اين يذهب هؤلاء حين يعيشون على اراضي بلدان اجنبية وهم لايحملون جواز سفر بلادهم، ولايستطيعون مراجعة سفارات بلادهم التي كانت اوكار للقتل والاغتيال والتسميم ؟ ببساطة سيطردون او يقدمون لجوء لبلدان اوروبا التي تحكمها قوانين اللجوء السياسي واللجوء الانساني استنادا الى اتفاقية جنيف لعام1951
هكذا حمل آلاف العراقيين جوازات سفر اوربية بدون ان يحصلوا على حق جوازات بلادهم الاصلية : العراق. ثم حدثت حرب الخليج واعلان الحصار فخرج جيل آخر تربى اكثره ، خاصة من الكتاب والصحفيين والفنانين ،في حضن النظام ودعاياته العدائية التي ماتزال تريد سلب حق الحياة حتى في المنفى. لقد سلبوا العراق من العراقيين واشاعوا حقد صدام على العراقيين في الداخل والخارج ولكي يستمروا في مصادرة حقوق الاخرين اخترعوا قضية الجنسيتين بعد ان اخترعوا فتات موائد الاجنبي الذي صاروا عبيدا له وهو يحتل العراق ويوفر لهم فرص العيش والمال والوظائف والايفادات ليمثلوا العراق ولايمثلوا العراقيين وليقيموا المؤتمرات باسم عراق لانعرفه ولايعرفنا . لكن من اؤلئك الذين يمثلون العراق فنا وادبا وصناعة واعلاما وتاريخا وعلما؟
ثلاثة ارباعهم شعراء وادباء وكتاب وصحفيي وتجار وصناعيي وجلادي صدام .وربعهم الباقي التحق بالركب وصعد على ظهر السفينة حين رست واندس بين بضعة عراقيين عادوا من الخارج ووجدوا في الارباع الثلاثة والربع الباقي مايكفي لان يهدروا حق الحياة لملايين العراقيين.
الم يكن الحسين محقا حين قال: "فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برما". ما اشبه حالنا اليوم مع الحال التي وجد الحسين نفسه حاصلا على حق الموت فقط ، وفاقدا لحق الحياة.
نبيل ياسين