مسعود العمارتلي يغنّي في ستوكهولم

: 8/7/13, 12:59 AM
Updated: 8/7/13, 12:59 AM
مسعود العمارتلي يغنّي في ستوكهولم

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – مقالات الرأي : لم يكن من السهولة حفظُ تسلسل الألوان السبعة ذاك، كان الأمر لا يخلو من صعوبة في تخيّلها واستذكار ترتيبها وهي تتحلل على البلاطة، سهّلها لنا الأستاذ (فاضل الأحمر) وهو يشرح في درس الفيزياء عمليّة تحلل الطيف الشمسي في الموشور الزجاجي قائلاً:

الكومبس – مقالات : لم يكن من السهولة حفظُ تسلسل الألوان السبعة ذاك، كان الأمر لا يخلو من صعوبة في تخيّلها واستذكار ترتيبها وهي تتحلل على البلاطة، سهّلها لنا الأستاذ (فاضل الأحمر) وهو يشرح في درس الفيزياء عمليّة تحلل الطيف الشمسي في الموشور الزجاجي قائلاً:

– (حُرص خزين).. إحفظوها جيّداً، تفلحوا! لقد جمعتُ في هذه العبارة الحرف الثاني من كل لون من ألوان الطيف الشمسي ليسهل عليكم حفظ تسلسلها. هي إذن: أحمر، برتقالي، أصفر، أخضر، أزرق، نيلي، بنفسجي.. إنتهى الدرس!

هذه هي إذن ألوان قوس قزح التي أراها هنا كلما أمطرت نهاراً، ولا أزال للآن أحفظ تسلسلها وأنا أراها مجسّدة سواءٌ في البيارق التي تملأ المدينة منذ أيّام، مرسومةً على الخدود، أو في واجهات المباني..

ألوان (الحُرص الخزين) هذا، صارت فيما بعداً رمزاً لأكثر سكان كوكبنا إثارة للجدل، اؤلئك الذين تجمّعوا من كل أرجاء المعمورة، عشرات الآلاف ممن حملوا أعلامهم الملونة بتلك الألوان السبعة وأحلامهم في الحبّ والسلام، وجابوا شوارع المدينة منذ ظهيرة اليوم وهم يودّعون أهل ستوكهولم ويشكرون لهم استضافتهم في مهرجانهم السنوي (موكب الفخر) الذي يقام هنا كلّ صيف.

في واحدة من المرّات، راقَ لي أن أزور نادياً ليلياً كان جلُّ روّادهِ من المهاجرين، من الذين ضاقت بهم سبل العيش في بلدانهم المنكوبة، فقرروا أن يكون هذا البلد ملاذاً آمناً لهم. أغلبهم أتى من الشرق، مع مزيج من سويديين أحبوا أن يعيشوا أجواء الشرق بنكهة أوروبية. رقص شرقي وغناء عربي وتركي وفارسي وهندي وووو.. المكان إسمُهُ يعني (حلبة البولنغ).

كان وجه الشابّة التي بدا وكأنها بالغت في وضع المساحيق حتّى بات منظرُ وجهها مُلفتاً للنظري أكثر من ساقيها اللذين أسفر عنهما ثوبُ أصفر يسرُّ الناظرين وغاية في الأغراء. الوجهُ خيّل لي أنني أعرف صاحبته لكن الأمر كان لا يخلو من ريبة، فثمّة من شيء خطأ، تعمّدتُ التحديق بعينيها كي أحرّك فيها السؤال فيما إذا كنتُ أعرفها أم لا لكنها باغتتني:

– كريم… هل عرفتني؟ بالتأكيد كلا.. فأنا الآن أُدعى (هيلينا).. ألستُ الآن أجمل؟

لم يطل بي التفكير كثيراً للإحاطة بتفاصيل أكثر، فهيلينا هذي لم تكن سوى (هلال) الشاب العراقي الذي كان من زبائني في محل عملي، الذي كان يحرص على خصوصيّة ملفاته وصوره، والذي كان يُعاني من شعوره بأنّه خُلِقَ امرأة في جسدِ رجل، ولم يكن أمامهُ من خيار أن يعيش الشخصيتين معاً قبل أن يحسم أمره، شخصيّة هلال في الحياة العامة، وهيلينا في الحياة الليلة والخاصة. عليّ إذن، إحتراماً للموقف، أن أتحدّث معها بضمير المؤنث المًخاطب:

– لكنّك تبدين فاتنةٌ جداً يا هيلينا، هلاّ عرّفتِني بالآخرين.

– أقدم لكم صديقي المهندس كريم الذي كلّما ألمت بحاسوبي مصيبة هرعتُ له.. كريم هذا ستيفان، صديقي، هذا (رامي) وصديقتهُ (أليسا) التي ستقدّم وصلة رقصٍ شرقي هذه الليلة. بصحّتكم!

لم يأخذ منّي الأمر الكثير من التساؤل بخصوص أليسا، فقد كان رامي طالب اللجوء حديث العهد بالبلد، قد خطبَ ودّها طمعاً في الحصول على إقامة دائمة هنا باعتباره متجرّداً من عقده الشرقية، وكنت أعرفه حقّ المعرفة، همس في أذني في غفلة من الجميع:

– هذا كان اسمه (علي) ومتحوّل الآن إلى أليسا.. بيني وبينك خوش يرگص شرقي.

هاجر رامي إلى كندا بعد أن رفضت دائرة الهجرة منحه اللجوء، وصارت أليسا تشكو الوحدة بغيابه. كان حنوناً جداً وشهماً، قالت على المائدة التي ضمتني وإياها في الحفل الذي أقامته هيلينا بعد خروجها من المستشفى بعد مرور عام على حادث التعارف، وكانت قد حسمت أمرها وتحوّلت إلى إمرأة حقيقية. شرب الجميع نخب نجاح العملية، فيما أعادت هيلينا كأسها إلى الساقية، قالت لي أنها لم تعد قادرة على الشرب بعد أن تغيّر نظام جسمها وأزيلت الكثير من الأمعاء في عمليّة التحوّل وصار الأمر يشكّل خطورة على جهازها الهظمي.

رقص (ماتس) يومها الچوبي والهچع وكل رقصات الشرق إبتهاجاً بالمناسبة، (ماتس) هذا، السويدي الذي لا تجد مناسبة لمهاجري الشرق الأوسط إلا وكان لولبها ودينمو حفلاتِها، رأيتُه هذا اليوم في (موكب الفخر) يرقص فرحاً في مسيرة الإيرانيين المهاجرين الذي فاق المواكب الأخرى عدّة وعديدا.

حين قرأت في موقع (الكومبس) صباح اليوم، أن المثلليين الذين جاؤا من كلّ أوروبا سيودّعون ستوكهولم في آخر يوم من مهرجان الفخر هذا، عائدين إلى ديارهم بمغنم الحفاوة، كانت الوقت قد أوشك على انطلاق مسيرتهم. وكان الموكب سيتحرّك من وسط منطقة (ميدبوريربلاتسن) الشهيرة بحاناتها ومراقصها، مارّاً بمركز المدينة، منتهياً بـ (حديقة الفخر) في منطقة (أوسترمالم) الراقية وسط المدينة. كنتُ قد وجدتُ بالكاد مكانا ضمن الواقفين قرب انعطافة (حدائق الملك) حيث سيمر الموكب بمحتفليه وموسيقاه وبهرجته، متأهباً لأن لا تفوتني شاردةٌ ولا واردةٌ وأنا أرى هذا الحشد من الجمال يسير تحت شمس ستوكولم الودودة في واحد من أسخن أيامها (درجة الحرارة 27).

لا غرابة أن تشارك وفود الدولة المضيفة لهذا المهرجان بمسيرات آلية وراجلة، فعدا منظمات واتحادات المثليين التي رعت هذا المهرجان، كان لكل حزب من الأحزاب وفده الذي شارك بمثلييه لا ممثليه، حزب المحافظين الحاكم وأحزاب البيئة والوسط والإشتراكيين الديموقراطيين، وأخيرا مسيرة حزب اليسار الموسيقية الراجلة براياتها الحمراء وهي تعزف النشيد الأممي، التي وجدتُني لا شعورياً أغني معها وأنا أصوّر الموكب:

"هبّوا ضحايا الإضطهاد/ ضحايا جوع الإضطرار

بركانُ الفكر في اتّقاد/ هذا آخر إنفجار

بجموعٍ قويّة هبّوا لاح الظفر

غد الأمميّة يوّحد البشر."

كبار، صغار، نساء، رجال، عسكر، قضاة، مهنيّون، سود، بيض، حمر، صفر، أفارقة بطبول، لاتينيّون يرقصون السالسا، أجناس شتّى من البشر كانت حاضرةً هنا لتغنّي مع فرقة النحاسيّات الراجلة هذا اللحن الذي كتبهُ الشاعر الفرنسي (أوجين بواتييه) في القرن التاسع عشر تحيّة لانتصار كومونة باريس ليصبح نشيد الأمميين في العالم بأسره بعد أن تُرجم لكل اللغات ومن بينها العربية التي احفظ هذا النشيد بها.

فتيات عاريات الصدور بأقراطٍ في الحلمات، وكاسيات، يسرن متشابكات الأيدي، ويقبّلن بعضهن من الشفاه، وشبّان يفعلون الشي نفسهُ علناً مع من يعشقونهم فرحين بأنه هنالك من يتفهّم أنهم ليسوا بشاذّين عن المجتمع، هم مختلفون فقط، وخُلقوا ليجدو أنفسهم كذلك. تمرق طائرة شراعيّة صغيرة فوق الجموع وقد سحبت خلفها لافتة بثلاثين متراً أو أكثر: مرحى لكم أيها المحبّون! طيّارُها يلوِّحُ لهم لاريب، محلِّقاً، فيما يسير تحتها موكب المثللين الذي تزوّجوا بعضهم رسمياً و(أنجبوا) بعد أن شُرّعت القوانين هنا من أجل أن يحظوا بهذا الحق.

لم يطل أمر مناقشتِه في البرلمان طويلاً، تصويت بأغلبية ثم قرار بالسماح للمثللين المتزوجين بالتبني كأي اثنين ينويان بناء أسرة، أختلف المجتمع على تفاصيل صغيرة بعد التشريع، لكنّها صارت الآن مثبّتة ومدّونة في قانون الأحوال الشخصية. واحدة ممن كنّ يسرن في موكب الأزواج المثليين كانت ترفع لافتة صغيرة تقول (أنا حموّة)، فيما العائلة تسير وصغارها معها.

تنتهي مسيرات الضيوف ليأتي دور المضيّفين الذي كانوا يمثلون كلّ منظمات ومؤسسات المجتمع، النقابات المهنية والأكاديمية، الإتحادات، شركات النقل الكبرى، المتقاعدون وهم يسيرون متشابكي الأيدي والقلوب، مسيرة للمقعدين على كراسيهم المتحركة، وأخرى لأكبر مستشفى جامعية وواحدة من أفضلها في التسلسل في العالم، مستشفى (كارولينسكا) الجامعيّة التعليمية بكل طلابها وأطبائها وكادرها التدريسي من المثليين وأصدقائِهم، ممن جاءوا طوعاً للمشاركة. فريق الصليب الأحمر لم يغِب، والدفاع المدني ورجال الإطفاء كانوا حاضرين ليس تأهّباً، لكن لأن فيهم مثليين، فريق شرطة ستوكهولم، برجاله ونساءِه، من أقوى أجهزة الشرطة في العالم، حضروا ترعاهم سيّارة رسميّة في هذا العرس وهم بأزيائهم الرسمية (لكن بلا مسدسات ولا دروع مضادّة) وقلوبهم التي تهوى مثيلاتِها، ومسيرة راجلة تتبع شاحنة مدرّعة باللون الكاكي المرقّط اعتلاها شباب وشابات من الجيش السويدي ممن لم يروا بأساً في أن يقولوا نحن وُلدنا هكذا وهم يرشقون المحتفين ببنادق الفقاعات الملوّنة.

أبواق وأعلام وبيارق ولافتات وموسيقى صاخبة والجميع يحيّونهم ويصفرون لهم ويباركون فيهم شجاعتهم.

ستوكهولم عن بكرة أبيها بكّرت لحجز الأماكن في الصفوف الأمامية على امتداد حوالي عشرة كيلومترات وعلى الجانبين من الأرصفة لكي يحظوا برؤية هولاء البشر الذين لا ذنب لهم أنهم أحبّوا بعضاً بطريقة مُغايرة. متحوّلون ومتحوّلات بشعور مُسرّحة أو مقصوصة يرتجزون أغنية جميلة الكلمات عن الشُعور الطويلةِ التي قُصّرت، والقصيرة التي أُطيلت.

أستحضر في الحال أغنية (مسعود العمارتلي)، مطربة الثلاثينات التي عانت، مثلهم، من كونها رجلاً في جسد امرأة وهي تئِّن من الداخل وتغنّي وأنا معها:

"گصّت المودة يبوية گصّت المودة/ شعري ارد اگصّه اعليك گصّة المودة."

أتساءلُ في نفسي: ماذا لو كان مسعودٌ هنا ليشهدَ كيف تغيّر العالم وأصبح أقلّ اشتهاءً للموت ورؤيةً للدمِ؟

تقول الرواية المتناقلة شفاهاً، والمدوّنة فيما بعد، عن مسعود العمارتلي: أنها مطربة ولدت بداية القرن العشرين وكانت من أجمل الأصوات النسائية، لها الكثير من الأغاني غير گصت المودة مثل: سوده شلهاني، ذبّي العباية، خدري الجاي خدري وبوية محمد. عنك الكثير من الأبوذيّات، وأنها فرّت من ناحية (الكحلاء) لتغنّي في المقاهي كمطرب اسمه مسعود، لكنّها سرعان ما عادت إليها لتحيا حياة الذكور وتتزوج من امرأة عرفت فيما بعد بسرّ تحوّلها إلى رجل فدسّت لها السم في الطعام وهي بعمر الرابعة والأربعين.

كانت خيالاتي مايزال يملؤها الجمال حين عدتُ إلى المنزل من (مهرجان المخنّثين) كما سمعت وصفه من ثلاثة شبان قصيري الجلابيب طويلي اللحى كانوا يوزعون منشوراتٍ دعويّة بباب محطّة الميترو في الحيّ الذي أقطنُه.

بعد حوالي شهر سأغادر هذا المكان راجعاً إلى بغداد التي لي فيها أحبّة وخلاّن. أقرأ تحذيراً في الأخبار من أن موجة عنفٍ شديدة ستضرب البلاد خلال هذه الأيّام، الكلّ متخوّف ومتأهب للدفاع عن نفسه. هذه الموجة يقف وراءها لاشكّ مثلُ أصحاب اللحى أؤلئك، الذين إن أراد أحدهم شتمَك قال لك: أيّها المُخنّث!

كريم راهي – ستوكهولم

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.