المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
يخيل لي أحيانا أنني في كابوس مخيف, اجاهد في الاستيقاظ منه دون جدوي, كابوس راقد على القلب والوجدان والعقل كجلمود صخر حطه السيل من عل..
يخيل لي أحيانا أنني في كابوس مخيف, اجاهد في الاستيقاظ منه دون جدوي, كابوس راقد على القلب والوجدان والعقل كجلمود صخر حطه السيل من عل.. قطعا هذه مصر التي لا أعرفها, فمصر التي أعرفها وطن للتسامح والجدعنة والشهامة والإيمان قطعا هذه مصر التي لا أعرفها, فمصر التي أعرفها وطن للتسامح والجدعنة والشهامة والإيمان الواعي الذي يشع نوراً ومحب
يخيل لي أحيانا أنني في كابوس مخيف, اجاهد في الاستيقاظ منه دون جدوي, كابوس راقد على القلب والوجدان والعقل كجلمود صخر حطه السيل من عل.. قطعا هذه مصر التي لا أعرفها, فمصر التي أعرفها وطن للتسامح والجدعنة والشهامة والإيمان الواعي الذي يشع نوراً ومحبة لا الإيمان الغليظ الحاد مثل سكين جزار في ليلة عيد الأضحي, مصر الدولة والحضارة أول من علمت البشرية معنى الضمير, وآمنت بالإله الواحد, وعاش فيها الأنبياء وذكرها الله في كتابه الحكيم.
مصر الثقافة والفنون والألوان الزاهية, مصر مينا وتوت عنخ أمون والفلاح الفصيح والليث بن سعد ومحمد علي والجبرتي والخديو إسماعيل ورفاعة الطهطاوي وزكي مبارك ويعقوب صنوع ومحمد عبده وعباس العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم وسعيد الصدر ومحمد سعيد ومحمود مختار وسيد درويش ومحمد عبد الوهاب وسلامة موسي والأزهر وعلي عبد الرزاق ومعهد السينما والأوبرا ومحمد كريم ونجيب محفوظ وطلعت حرب وسعد زغلول ولويس عوض وبديع خيري وأحمد شوقي وأم كلثوم وبليغ حمدي.. ومئات الكواكب والنجوم اللامعة غيرهم.. مصر المنارة التي تشع بأنغام الحياة وتهضم ثقافة العالم وتكسبها روحا مصرية خالصة.
أما مصر الآن.. فهي مصر الغليظة المتجهمة التي يكاد يكون القبح شريكا مشتركا في كل جوانبها, الفوضي ضاربة بأطنابها في كل ركن, القمامة ملقاة في كل مكان, أفكار العتمة تنتشر كالجراد بين الناس تأكل الأخضر اليانع في نفوسهم وتترك الأصفر الجدب, مصر التي تنقل ثقافات الصحراء الجافة وتقاليد البداوة وتظنها دينا سمويا, مصر التي تعادي الحياة وتنناثر علي أرصفتها كتب الثعبان الأقرع وعذاب القبر والويلات والفزع, مع أن الدين دعوة للحب والرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين), مصر التي تجرم أجمل ما فيها من فنون وإبداع, وتطارد أثمن ما فيها من أفكار ورجال ومفكرين وكتاب.
مصر التي كانت تناقش أحدث ما كان في الدنيا من أفكار وفلسفات وفكر صارت تبحث تخفيض سن زواج البنات, وتتحاورعن إرضاع الكبير, وفوائد بول الأبل, وتكفر روايات نجيب محفوظ وتشطب فقرات من قصص إحسان عبد القدوس!
مصر التي كان زعماؤها محمد كريم ومصطفي كامل وسعد زغلول ومصطفي النحاس ومكرم عبيد وجمال عبد الناصر وأنور السادات صار زعماؤها حازم أبو إسماعيل وخيرت الشاطر وأسحاق الحويني وياسر برهامي!
طبعا لا أنكر أن كل زمن ينجب رجاله وأفكاره وتقاليده وقيمه, لكن من يتصور أنه يمكن أن ترجع مصر إلي الخلف لأكثر من مائتي سنة, تحديدا إلي منتصف القرن الثامن عشر قبل قدوم الحملة الفرنسية بثلاثين أو أربعين سنة, اضطرابات وصراعات وفتن طائفية وفئوية..
هل التاريخ يعيد نفسه؟!
كل فلاسفة التاريخ رفضوا هذه الفكرة, وأثبتوا أن الإنسان لا يسلك نفس التجرية مرتين, وهذا هو الفارق بين الإنسان والحيوان, وكلنا نعرف أنه مع تقدم العلم, راجت مقولة علمية: الإنسان حيوان ناطق, فصفات الإنسان تشريحيا وبيولوجيا لا تختلف كثيرا عن الحيوان, واثبتت تجارب نادرة أن الحيوان يشعر ويتألم ويحب ويكره ويفكر أيضا..اذن ما هو الفارق الجوهري؟!
الفارق أن الإنسان حيوان ذو تاريخ, أي له تجارب يتعلم منها وينقل بها خبراته إلى الأجيال التالية, بينما الحيوان لا يستطيع ذلك, فلا يوجد حيوان له تاريخ, أي تجارب منقولة بين أجياله, فنحن نستطيع أن نصطاد الفأر بنفس الطريقة التي كنا نصطاد بها الفأر قبل قرنين من الزمان أو ثلاثة أو أربعة بصناعة مصيدة, ويمكن أيضا أن نصطاد بها الفأر بعد قرنين أو ثلاثة أو أربعة, لأن الفئران لا تنقل خبراتها إلى بعضها البعض, بينما الإنسان يفعل ذلك بسهولة ويسر..وهذه هي قيمة التاريخ؟!
وكلنا يعرف كيف دخلت أوروبا إلى عصر الظلمات والتخلف, بعد الحضارتين العظميين: الإغريقية والرومانية, بينما خلع المسلمون رداء التخلف وسادوا العالم وأبدعوا في كل فنون الحياة ومعارفها بحرية مدهشة وكتب الفلسفة موجودة والدوواين الشعرية متاحة وتطورعلوم الموسيقي والغناء مكتوب, علم وحيد لم يتقدموا فيه هو علم السياسة حتي لا يغضبون الخلفاء ويتعرضون لغضبهم, وكانت الإمارة وراثة وبيعة بحد السيف إلا قليلا ونادرا, وهي الخلافة التي يحاول البعض أن يحييها.
كلنا يعرف هذا, فإذا بكثرة منا تدير ظهرها للحضارة وتوغل في الطريق العكسي, وهي ترفع نفس الشعارات والعبارات والأفكار التي أدخلت أوروبا إلي العصور المظلمة, ومن لا يصدق فليقرأ كتب التاريخ, وقد يدهشه فعلا هذا التشابه المذهل بين ما كان يقال في القرون من السابع الميلادي إلي الثالث عشر, وما يقال في بلاد المسلمين الآن ومنها بلادنا.
نعم..ليست هذه مصر التي أعرفها!
نبيـل عـمــر
عن "الأهرام" المصرية