المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
هل هُزمت أمريكا فعلاً في أفغانستان؟
كتب بشار جرار من واشنطن:
ملثمون لكن بلا كمامات، عادت طالبان بعد عقدين إلى حكم كابول، هذه المرة آتين من الدوحة لا إسلام آباد! هو – مهما تقنّعوا وتجمّلوا – النسخة السنية من نظام ملالي إيران، لكنه والحق يقال أكثر توحشاً وأقل دهاء. وعلى ذكر “التوحش” سيعلم العالم قريباً، أن المنهل واحد لتوحش حلفاء طالبان الأمس ومنافسي اليوم، القاعدة وداعش. بدأت على الفور عمليات تلطيخ الرسومات والإعلانات التي تظهر ما تراه الحركة -التي تتلمذت في باكستان- عورة ومدعاة للفتنة والفجور!
لكن الصورة الأكثر بلاغة في فضح كل ما جرى منتصف آب اللهّاب، كانت صورة متحركة، سوريالية أو لعلها كوميديا تقطر سواداً، صورة ثلاثية الأبعاد: دخول “الفاتحين” إلى القصر الرئاسي في كابول تحت أضواء وفلاشات تخطف الأبصار وفي ظلال الميكروفونات المزورعة الثابتة والمرفوعة المتحركة، على إيقاع بث مباشر عبر شبكات الجزيرة، له مذيعوه وضيوفه المختارون بعناية، تصريح أحد “الفاتحين” بأنه أمضى ثمانية أعوام سجيناً في غوانتانامو، وصورة عامة الناس الذين حالفهم الحظ في الدخول إلى حرم المطار الذي اقتصرت فيه الملاحة الجوية على الطائرات العسكرية فقط. رأيناهم في تغريدة مصورة وقد هرولوا باتجاه طائرة “سي مئة وثلاثين” العملاقة. تسلق عدد أقل منهم أبوابها العالية الحصينة، والقلة القليلة أفلحت في التشبّث رغم تسارع ما قبل الإقلاع، لكنهم سقطوا جميعاً أمام جموح محركاتها!
المشهديّة ذاتها لم تتغير. فبعيداً عن النشوة أو النقمة التي شعر بها من اعتبروه نصراً لطالبان أو هزيمة لرابع إمبراطورية تحتل أفغانستان بعد السوفيتية والبريطانية والرومانية، ثمة مشاهد متكررة مما شهدناه مع احتلال الكويت وبعد تحريرها، قبل سقوط بغداد وبعد احتلال العراق الإحلالي من قبل نظام ملالي طهران، وعلى مدى سنوات الربيع العربي المشؤوم المأزوم! تكره الناس – كل الناس – القمع ولا تحب الانقياد إلا طوعاً. المشكلة – المعضلة هي في الوعي الذي يستطيع قراءة الأحداث حتى يتمكن من صنعها لا الانفعال بها وفقاً لما يريده الصناع الحقيقيون للحدث.
هنا في الولايات المتحدة ولأول مرة، يعيش الناس بصرف النظر عن مدى انخراطهم أو حتى اهتمامهم بما جرى في أفغانستان، يعيشون أشبه ما يكون بصدمة ليست ببعيدة عن حملة أطلق عليها حملة “الصدمة والهيبة” (شاك آند أوو) الهيبة هنا بمعنى يخالطه كثير من الخوف والريبة والتوجّس. من مفارقات المشهد الأفغاني والعراقي عند إسقاط صدام أو سقوط نظامه تمثل بالانهيار السريع للقوات النظامية من جيش وأمن تحت وطأة حملة قصف جوي غير مسبوقة بعد الحرب العالمية الثانية إلا في حرب تحرير الكويت.
الصور الصادمة هذه سنرى مزيداً منها مع بدء النسخة الثانية من “إمارة” طالبان، نسخة تأتي بعد عقدين من استنزاف الولايات المتحدة والناتو بالأرواح والأسلحة والعتاد والأموال، وبعد عامين على تفشي الطاعون الصيني من مختبر ووهان الذي أريد له إبان ولاية باراك حسين أوباما الثانية أن يجري أبحاثاً شديدة الخطورة بعيداً عن الأرض الأمريكية فيما يعرف بتلزيم المهام نظير دعم مالي (أوتسورسينغ)!
نعلم جميعاً أن الفايروس ـ كوفيد التاسع عشر – الذي يظن بعضهم أنه مصنّع قد تسرب من ووهان إلى العالم كله خطأ أو عمداً. البعض شطح في نظرية المؤامرة للقول بأن التسريب -كما التصنيع- كان مقصوداً ويصل إلى حد “الإرهاب البيولوجي”، إحدى التهم التي بررت إسقاط نظام صدام واحتلال العراق.
محادثات الدوحة كانت طويلة، صحيح أنها لم تبدأ في عهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، لكن قطعاً لا يجوز اعتبارها محصورة فقط بإدارة سلفه دونالد ترامب الذي كان يريد إبرام اتفاق مع طالبان في كامب ديفيد، الأمر الذي يعتقد بأنه السبب الرئيسي خلف إقالته القاسية لمستشار الأمن القومي جون بولتون أحد صقور الحزب الجمهوري الأمريكي.
مفاوضات الدوحة التي تارة تتولى ”تخفيض التوتر” مع حماس، وتارة مع طالبان، وشاركت في صفقات إطلاق سراح رهائن النصرة بمن فيهم راهبات دير معلولة ”الأيقوني” السوري إبان ولاية أوباما الثانية، تشير إلى أنها برعاية الدولة العميقة في أمريكا، تحديداً العقل العسكري والأمني الذي يبقى سر الأسرار في صنع قرارات البيت الأبيض (السلطة التنفيذية) والكونغرس (السلطة التشريعية) معاً لا بل حتى المحكمة العليا (سيدة السلطة القضائية) كما يرى بعضهم في امتناع رئيسها “المحافظ” عن قبول طعونات ترامب بالانتخابات الأخيرة.
هل فعلاً انتصرت طالبان أو انهزمت أمريكا كما يتمنى البعض بأشبه ما يكون برغائبية الأطفال والعجائز؟ أم أن الصور حتى وإن كانت كصناعة هوليوود رباعية الأبعاد التي عرضت مؤخراً فيلم “رحلة الغابة” (جانغل كرووز) تبقى دليلاً على ما قد يكون مغايراً لما نرى أو عاملاً لما سنرى بعد شهور أو حتى سنين؟
هل تعمدت واشنطن والناتو معها تلزيم “الإرهاب والتطرف” لطالبان لاستنزاف أو احتواء تنظيمات أكثر توحشاً وانفلاتاً؟ هل تعمدت عمليات الحرق والصدم الإعلامي بسقوط أفغانستان وتسليم كابول تفريغ ساحات شرق أوسطية وحتى إفريقية من الإرهاب استهدافاً للصين مثلاً أو تهديداً لروسيا؟ هل تقتصر ردات الزلزال الطالباني على ملالي إيران أولاً؟
لعل الكونغرس الأول لإعلاميي العالم الذي ترعاه أبو ظبي بعد أقل من شهرين من الذكرى العشرين لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، تشكل فرصة للوقوف مع الذات. فرصة للمصارحة والمكاشفة الإعلامية لتحقيق إعادة البناء المأمول للوعي والضمير الإنساني حتى يكون الناس كل الناس في موقع صنع القرار إن لم يكن اتخاذه. قرار الحرب والسلم ليس بالأمر الهيّن، أما السلام فتلك ثقافة لها أهلها الطيبون الخيرون.
نقلاً عن مركز شُرُفات لدراسات وبحوث العولمة والإرهاب. عمّان-الأردن