14عاماً من تلوّث العراق بإشعاع اليورانيوم*

: 2/23/17, 1:40 PM
Updated: 2/23/17, 1:40 PM
14عاماً من تلوّث العراق بإشعاع اليورانيوم*

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

مقالات الرأي: منذ العقد الأخير من القرن العشرين، تعاني البيئة العراقيّة من مشكلات خطيرة، أبرزها التلوّث الإشعاعي الناجم عن استخدام أسلحة اليورانيوم المُنضّب Depleted Uranium التي نجمت عنها تداعيات صحيّة وخيمة. إذ نشرت أمراض سرطانيّة، وولادات ميتة، وتشوهّات خلقيّة، وحالات مرضيّة مستعصيّة أخرى.

في المقابل، ابتليت البيئة بمسؤولين ليسوا على مستوى المسؤولية التي تطلبّها تلك الكارثة، إضافة إلى غياب الكفاءة والتأهيل. إذ واصلوا التفرّج على محنة العراقيين الناجمة عن التلوّث بأسلحة مشعّة، ولم يسعوا جدياً للتخفيف منها. وانخرط بعضهم في نوع من التعتيم في شأنها، بل التضليل أحياناً، سعياً الى تبرير فشلهم وتخبطهم وتقصيرهم. ولم يتحرّك أحد في السلطات الثلاث (التشريعيّة والقضائيّة والتنفيذيّة) للمحاسبة على التقصير والإهمال، كأنما الأمر لا يعني شعباً بأكمله، ما يثير أيضاً إحساساً بالريبة حيال ذلك الصمت!

بعد 14 عاماً على غزو العراق الذي استخدمت القوات الأميركيّة والبريطانيّة خلاله أسلحة مُشعّة متطوّرة (هي قذائف اليورانيوم المنضّب)، لا يزال ملف المواقع الملوّثة بالإشعاع مفتوحاً، من دون أن يطرأ عليه تقدّم يذكر. كذلك لم تنجِز الجهات المعنيّة مهمة تنظيف البيئة منهاً، بل إنها أصلاً تجهل عددها ومواقعها! كما لم تلتفت إلى ما تلحقه من أضرار بصحة العراقيين وحياتهم بطريقة تتزايد مع تراكم العجز والفشل. في المقابل، تبدو السلطات العراقيّة جاهزة دوماً لاختلاق الأعذار والتبريرات الواهية لتقصيرها الواضح في مهمة وطنيّة وازنة. وكذلك أهملت باستهتار صلف المبادرات المخلصة التي قدمتها مؤسّسات علميّة دوليّة بصدد مساعدة العراق في التصدي لتلك الكارثة.

تقارير علميّة بأدلة دامغة

عقب غزو العراق، كشف الخبير سكوت بيترسون وجود تلوّث إشعاعي ناجم عن مخلّفات حربيّة لأسلحة اليورانيوم في بغداد، مشيراً إلى أنه يفوق الحدود المسموح بها دوليّاً بما يتراوح بين ألف وعشرة آلاف ضعف. ونشر بيترسون تقريره في صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» في ربيع العام 2003. وفي أيلول (سبتمبر) من تلك السنة، أجرى فريق من علماء «مركز بحوث طب اليورانيوم» Uranium Medical Research Center (مركز بحوث دولي مستقل، مقره نيويورك، ويملك فروعاً في دول أوربية عدّة) ما وُصِفَ آنذاك بأنه أوسع بحث ميداني عن تأثيرات أسلحة اليورانيوم في حروب العراق. وشمل بغداد وضواحيها، ومدن وسط العراق وجنوبه كلها. ووجد أدلة تثبت انتشار التلوّث الإشعاعي في الأمكنة التي جرى مسحها كلها، مشيراً إلى أن مستويّاته فاقت الحدود المسموح بها دوليّاً بما يتراوح بين عشرة أضعاف وثلاثين ألف ضعف! وتخطّت مستويات الإشعاع في النبات والحيوان في البصرة (جنوب العراق) قرابة 14 مرّة الكميّة المعتمدة معياراً للسلامة من قبل «منظمة الصحة العالميّة».

وفي العام 2005، قدّر «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» أنّ العراق بات يشتمل ما يزيد على 1000 موقع ملوّث بأشعة متأتيّة من أسلحة يورانيوم مُنضّب.

وفي العام 2006، كشف الباحث خاجاك وارتانيان عن 100 موقع ملوّث باليورانيوم المُنضّب في البصرة، معظمها كانت على هيئة مخلّفات حربيّة. وحذّر من أنّها ربما تتضاعف عبر نقل خردة الحديد الملوّث الى مناطق اخرى. ومن المعروف أن تجاراً كثيرين يتاجرون بخردة الحديد الملوّث، ما أدّى إلى نقل الإشعاعات الى أماكن عدّة، بالترافق مع تعريض مئات من المواطنين لأخطارها المهلكة.

مجرد كلام

في عام 2007، أوضحت وزارة البيئة العراقيّة أنها كشفت 315 موقعاً ملوّثاً بالإشعاع المتأتي من أسلحة اليورانيوم. وفي محفل دولي استضافته دبي، طالبت المجتمع الدولي بتقديم المساعدة لتنظيف بيئة العراق من مخلّفات الحرب ومعاقبة «الجناة الملوّثين». ولاحقاً، بدا الأمر كأنه مجرد كلام، إذ لم تتابع جهة رسميّة ذلك المطلب المحق.

في العام عينه، أعلنت جهات عراقيّة مسؤولة أنّ الإصابات السرطانيّة التي يعتقد بصلتها بأسلحة اليورانيوم المنضّب بلغت 140 ألف إصابة، مطلقّة وعوداً كثيرة لمعالجة المشكلة. وفجأة، تغيّرت المواقف. وبدأت حملة تعتيم وتضليل صلفة، بلغت ذروتها في العام 2010، مع إعلان «مركز الوقاية من الإشعاع» (تابع لوزارة البيئة آنذاك) «خلو العراق من التلوّث الإشعاعي»، من دون تقديم أدّلة تتوافق مع ذلك الإعلان الجليل! والمفارقة المخجلة أن المركز عينه شارك في دراسة علميّة أنجزتها وزارات البيئة والعلوم والتكنولوجيا والصحة، بيّنت وجود ما يزيد على 41 موقعاً ملوّثاً بالأشعة مع خريطة لها بيّنت أنها تشمل مجموعة من المواقع صُنّفَت أنها «ملوّثة بدرجات خطيرة جداً». ونشرت الدراسة في صحيفة «غارديان» البريطانيّة في كانون الثاني (يناير) من تلك السنة.

في السياق عينه، كشف فريق علمي قاده إدوارد إليسون، وهو مختص بعلوم التلوّث الإشعاعي، وجود ما يزيد على 143 موقعاً ملوّثاً باليورانيوم المنضّب في 7 محافظات عراقيّة، منها قرابة 40 موقعاً في بغداد، و22 موقعاً في البصرة، و20 موقعاً في الناصرية، و20 موقعاً في مدينة بابل، و16 موقعاً في محافظة ديالى، و14 موقعاً في محافظة ميسان، و11 موقعاً في محافظة واسط.

وتناولت تحقيقات صحافيّة كثيرة انتشار التلوّث الإشعاعي في محافظات بغداد والبصرة والناصرية ونينوى وميسان والنجف والمثنى والأنبار وكربلاء وغيرها. وأشارت إلى كثافة التلوّث في مناطق سكنيّة عدّة، ومدارس وأبنية اخرى، نتيجة وجود مخلّفات مشعّة مطمورة فيها.

وفي تقرير بعنوان «توقّعات حال البيئة في العراق للعام 2013، أقرّت وزارة البيئة بوجود «مخلّفات عسكريّة كالدبابات والمدرّعات ومخلفات أعتدة بعضها ملوّث بالإشعاع النووي (بأثر من) استهدافها بمقذوفات تحتوي اليورانيوم المنضّب من قبل الجيش الأميركي… ولا نعلم كميتها… ويشير «المركز العراقي للوقاية من الإشعاع» إلى وجود 46 موقعاً ملوّثاً بالإشعاع، بل أنّ قسمّاً منها قريب من أمكنة سكن مواطنين».

ذريعة «الأمن القومي»… المميت!

في صيف 2015، كشف الأمين العام لـ «مجلس السرطان» في وزارة الصحة الدكتور مهدي السراج، وجود تقرير يحدّد المواقع الملوّثة بإشعاعات أسلحة اليورانيوم، في محافظات بغداد والمثنى وصلاح الدين ونينوى والبصرة وميسان وذي قار والانبار. ولفت إلى أنّ معظم أسباب التلوّث تعود إلى عمليات عسكريّة خلفت مصادر مشعّة، كطائرات وهياكل دبابات وآليّات عسكريّة، مشيراً إلى أنّ المواد المشعّة شملت موادَّ كالسيزيوم المشع، وأكاسيد اليورانيوم، إضافة إلى محوّلات ومعدّات كهربائيّة وأسيجة معدنيّة ملوّثة باليورانيوم المنضّب».

وقبل فترة وجيزة، كشف رئيس «لجنة الصحة والبيئة النيابية» قتيبة الجبوري، عن وجود 55 موقعاً في محافظات عراقيّة مختلفة، ملوّثة باليورانيوم المنضّب بأثر من قصفها في الحرب».

كذلك تواصل وسائل الإعلام العراقيّة المستقّلة تحقيقاتها عن كارثة التلوّث الإشعاعي في منطقة «كسرة وعطش» في بغداد، مع ملاحظة أنّ السلطات باتت على علم به، لكنها… لا تتحرّك.

فصول من التضليل

بأثر من الإهمال، طاولت الإصابات السرطانيّة المتصلّة بالتلوّث الإشعاعي، قرابة المليون عراقي، قضى منهم عشرات الآلاف، إضافة إلى حدوث آلاف الولادات الميّتة والمشوهّة.

وحتى اليوم، لم تعالج المواقع الملوّثة بالإشعاع في العراق، بل لا تأبه الجهات المسؤولة حتى لتزايد الانتقادات عن فشلها في ذلك. وواضح أنها لا تعرف عددها ولا أمكنتها كلّها، على رغم السنوات الطويلة التي انصرمت. والأرجح أنها تغطي فشلها عبر مواصلة التعتيم والتضليل، وبل ربما الكذب.

وفي مطلع 2017، برزت حلقة أخرى في ذلك الأمر، مع تصريح مدير عام «دائرة التوعية والإعلام البيئي» في وزارة الصحة والبيئة، بأنّ «عدم إعلان المواقع الملوّثة بالإشعاع يتعلّق بالأمن القومي»! ولم يتردّد بالقول بأنّ «المصدر الوحيد الذي يملك صلاحية القول بوجود مواقع ملوّثة هو مركز الوقاية من الإشعاع في الوزارة… ولا نستطيع دائماً التحدّث عن ذلك الجانب لأسباب تتعلق بالأمن القومي… أحياناً المعلومات غير دقيقة… وفي الدول كلها لا يتم الإعلان عن ذلك لأسباب أمنية»!

وإذ يؤكّد التصريح حال التجاهل عبر الإشارة إلى أنّ «المصدر الوحيد» لكشف التلوّث الإشعاعي (مركز الوقاية من الإشعاع) فقد صدقيته منذ العام 2010 عندما زعم «خلوّ العراق» من التلوّث الإشعاعي! ولم يعد أحد يصدقه.

وزيادة على فقدان الصدقيّة، تجدر الإشارة إلى أن معظم الدول المتحضرة تهتم بالتلوّث الإشعاعي بطرق مملوءة بالجديّة والإحساس بالمسؤوليّة، بل أن بعضها يعلن حال الطوارئ لمجرد وجود شك في حدوث تلوّث إشعاعي. وفي تلك الأحوال، تستقدم خبراء مختصين، مع أجهزة مسح متطوّرة، كما تتخذ إجراءات وقائيّة فوريّة. ولا تتهاون إطلاقاً مع الأخطار المحتملة التي تحملها أشعة اليورانيوم على صحة المواطن وحياته، مهما كانت درجتها بسيطة. بقول آخر، ليس مسموحاً فيها «إخفاء التلوّث الإشعاعي لأسباب أمنية»، بل أن من ينخرط في الإخفاء يعرّض نفسه لأحكام قانونيّة قاسية. ما هو ذلك «الأمن القومي» الذي يخفي مصادر تلوّث إشعاعي مميت، بل يفرّط بحيوات المواطنين؟

د. كاظم المقدادي

*أكاديمي عراقي مقيم في السويد.

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.