ستراندبارغ.. شكسبير السويد

: 8/30/12, 9:26 PM
Updated: 7/13/23, 9:45 AM
ستراندبارغ.. شكسبير السويد

الكومبس – السويد بالعربية الإتحاد الإمارتية – حسّونة المصباحي

لا بدّ أن يكون أوغست ستراندبارغ (1849 ـ 1912) سعيداً، وهو في العالم الأبديّ لأنّ السويد، بلاده التي لعنها ولعنته، وجافاها وجافته أكثر من مرّة، مجبرة إيّاه على هجرها في مراحل مختلفة من مسيرته الإبداعيّة الرّائعة، كرّمته يوم وفاته يوم 14 مايو 1912، إذ سار في جنازته المهيبة أكثر من 60000 ألف من مواطنيها! كما أن الصحف الكبيرة والصغيرة التي حاربته وحاربها وهو حيّ مجّدت عبقريّته وفّنه العظيم وأفكاره الناريّة وهو يودّع الوداع الأخير في يوم ربيعيّ مشرق! ومنذ وفاته وحتى هذه السّاعة، يحتلّ أوغست ستراندبارغ في بلاده مكانة سامية كتلك التي يحتلّها شكسبير في بريطانيا، وغوته في ألمانيا، وموليير في فرنس ودانتي في إيطاليا!

كان أوغست ستراندبارغ متعدّد المواهب. فقد كان روائيّاً وشاعراً وكاتباً مسرحيّاً فذّاً. وكان مصوّراً ماهراً، وصحافيّاً قديراً. بل وكان عالماً بالحضارات الصينيّة القديمة أيضاً، وهو يمتلك قدرات هائلة في السّجال. وبلسانه اللاذع، وسخريته السّوداء، كان يرعب مساجليه، والمعارضين لأفكاره في الحياة والفن. وطوال مسيرته الإبداعيّة التي امتدّت حتى الأيّام الأخيرة من حياته، لم ينقطع أبدا عن نقد الطبقات الاجتماعيّة في بلاده، وعن الدّفاع عن حرّية الرّأي والفكر حتى ولو أدّى به ذلك إلى دفع الثّمن غالياً!

وكان أوغست ستراندبارغ من أوائل المؤسّسين للحداثة لا في بلاده فحسب، بل في أوروبا. وكان يحلو له أن يقول: “عليّ أن أكون أوروبيّاً أوّلاً لكي يتمّ الاعتراف بأعمالي في بلادي”. به اقتدى العديد من كبار الكتاب في العالم، من بينهم الأمريكيّان، تينيسي ويليامز وأوجين أونوي والإيرلندي صاموئيل بيكت، والتشيكي فرانز كافكا الذي كتب في شأنه يقول: “ستراندباغ الهائل والمرعب… هذا الجنون، وهذا الهيجان، وهذا الاندفاع الذي يدمّر كلّ من أو كلّ ما يريد إيقافه… وكلّ هذه الصّفحات المقتلعة بقوّة وصلابة القبضة اليدويّة!”.

وتعكس كلّ أعمال ستراندبارغ أغلب فصول حياته المضطربة، المفعمة بالتّناقضات والأزمات النفسيّة الحادّة، وبالقلق الذي لا يكاد ينقطع لا في اليقظة ولا في المنام، وبتمرّد دائم على المجتمع، وعلى الفساد في تجلّياته المختلفة والمتعدّدة. لذلك هم على حقّ أولئك الذي يعتقدون أنه لا يجوز الفصل بين ستراندبارغ وبين كل سطر خطّه!. وقد كتب هو يقول: “لقد ضحّيت بحياتي الشخصيّة، وسلّمتها لقمة سائغة للأغبياء والسّفلة! ألن يكون من العدل والإنصاف أن يترك آخرون شيئاً من جلودهم دفاعاً عن قضيّة مهمّة ورائعة”. وفي مكان آخر، كتب يقول. “أشعر بأنّني من السّائرين في نومهم. فلكأنّ الحياة والخيال يتمازجان ويختلطان ببعضهما البعض فلا يجوز الفصل بينهما”. ثم يضيف قائلاً: “أحسّ أنني لا أمشي على الأرض الصّلبة، بل أنني أطير في حالة من انعدام الجاذبيّة في جوّ من الظّلمات في ينعدم الهواء. فإذا ما أضاءني نور، أنهار ميّتاً!”.

وقد ولد أوغست ستراندبارغ في ستوكهولم عام 1849، العام نفسه الذي سقط فيه الرائع الآخر إدغار ألن بو ميّتا من السّكر على رصيف في مدينة بوسطن. وكانت والدته نورا التي توفّيت بداء السلّ في عام 1862 خادمة لدى عائلة والده الذي تزوّجها لينجب منها أربعة أطفال. ولم تكن عائلته فقيرة، غير أنه سيدّعي ذلك في الرواية الشهيرة التي روى فيها فصولاً من حياته، والتي حملت عنوان: “ابن الخادمة”. وفي هذه الرواية البديعة والمؤثّرة، هو يتحدث عن طفولته كما لو أنها كانت موسومة بالشّقاء والتعاسة والفقر المدقع. فمع إخوته كان ينام في غرفة ضّيّقة وفاسدة التهوئة. وفي هذه الغرفة نفسها، يتناول معهم طعام الغداء والعشاء. وكان دائم الجوع والخوف من الظّلمة التي تأتي مبكّراً في الشتاء، ومن السّير وحيدا في الشوارع، ومن والده الذي كان دائم العشق للنّساء الجميلات والبحث عن المتع. وفي ما بعد سوف تتعقّد العلاقة بين الوالد العجوز المتصابي، وبين الابن الصّعب المراس لتنقطع انقطاعا كلّيّا عام 1876. بعد نيله شهادة الباكلوريا عام 1867، التحق أوغست ستراندباغ بجامعة “أوبسالا”، غير أنه لم يلبث أن غادرها غير آسف بعد أن فسدت علاقته بأساتذته بسبب خصوماته الصّاخبة معهم. ولضمان قوته، عمل صحافيّا في جريدة Dagens Nyther الواسعة الإنتشار. كما عمل تلغرافيّا في مدينة لوند، جنوب البلاد. وفي هذه الفترة من حياته، تعرّف إلى سيري أسّن، وهي فنلنديّة من أصول أرستقراطيّة تطمح أن تكون ممثّلة مشهورة. معها سيعيش قصّة حبّ عاصفة سوف تنتهي بزواج لن يستمر طويلا.

إبداع المنفى

في عام 1879، أصدر ستراندبارغ روايته ألأولى التي حملت عنوان: “الغرفة السّوداء”. بطلها، أرنولد فالك، شابّ مثالي، يعشق ارتياد الأندية التي تعج بأمثاله، والبوهيميّين، والشعراء، والفنانين الرّافضين لقيم المجتمع البروجوازية والمتمرّدين عليها. وحال صدورها، لاقت هذه الرواية التي كتبت بلغة غير مسبوقة في النثر السويدي إقبالاً كبيراً لدى القرّاء. كما مدحها النقّاد الأكثر تأثيراً في الحياة الثقافيّة السويديّة في ذلك الوقت. أما الرواية الثانية: “المملكة الجديدة”، فقد أثارت حفيظة النّقّاد والقرّاء، وفجّرت غضب قسم واسع من المجتمع السويدي بسبب قسوة لهجتها في انتقاد العديد من المظاهر الاجتماعيّة المتّصلة بالزّواج والعائلة، ضدّ سترانبارغ حتى أنه اضطرّ إلى مغادرة بلاده ليعيش سنوات طويلة متنقّلا بين العديد من البلدان الأوروبيّة. وهو الذي كان يتقن العديد من اللّغات، خصوصاً الفرنسيّة، والإنجليزيّة، وجد في تلك السّياحة الطويلة ما ساعده على المزيد من صقل مواهبه، وفي تعميق أفكاره. وها هو في جبال الألب يتمتّع بالهواء النقيّ، وبجمال الغابات، وها هو في برلين مختلطا بالمثقفين الطلائعييّن، وفيها يتعرّف على النّمساويّة فريدا أوهل وبها يتزوّج زواجا لن تطول مدّته. وفي هذه الفترة، أصدر مجموعة قصصيّة حملت عنوان: “متزوّجون” وفيها ينتقد بحدّة أكثر من ذي قبل ظواهر اجتماعيّة في بلاده. ومرّة أخرى يثور المجتمع السويدي عليه فترفع قضيّة ضدّه! وفي باريس عاش أزمات نفسيّة خطيرة جعلته على حافّة الجنون. فقد كان يشعر أنه مطارد وملاحق من قبل مجهولين يرغبون في قتله. وفي روايته التي حملت عنوان “الجحيم” سوف يرسم لوحة مرعبة لهذه الفترة القاتمة من حياته.

وفي فترة المنفى الاختياري هذه، كتب ستراندبارغ العديد من المسرحيّات التي ستخلّد اسمه في جميع أنحاء العالم. وحتى هذه السّاعة لا تزال مسرحيّاته تحظى بإعجاب عشّاق الفّن الرّابع في باريس كما في بكين، وفي طوكيو كما في روما، وفي بيونس آيرس كما في برلين. تتمحور جلّ مسرحيّاته حول الصّراع بين الأقوياء والضّعفاء، وبين الطبقات الاجتماعيّة، وبين الجنسين وفي زمن صعود النظريّات الاشتراكيّة، لاقت مسرحيّات ستراندبارغ نجاحاً واسعاً لدى الطبقات العمّاليّة ولدى المناهضين للبورجوازيّة والرأسماليّة. و”مادوموازيل جولي” هي من أشهر مسرحيّاته. وفيها يستعرض فصولا من حياة فتاة أرستقراطيّة يدفعها خادمها إلى الانتحار. وفي مسرحيّة “الأب”، يقدّم زوجة شريرة تحاول أن تقنع زوجها بأنه مجنون. وفي “حلم”، تتضاعف الشخصيّات وتتعددّ، وتنمحي لتظهر من جديد. غير أن وعي الحالم تهيمن عليهم جميعاً. وهذا الحالم يعرف كلّ الأسرار، وكلّ الخفايا، وكلّ الخلفيّات…

في بدايات القرن العشرين، عاد ستراندبارغ إلى ستوكهولم ليتزوجّ من هارييت بوس. ومرّة أخرى سيفشل هذا الزواج الذي ستتخلّله خصومات وأزمات كما هو الحال مع التجارب السّابقة. وجميع الذين اهتمّوا بسيرته، أكّدوا أن صاحب “ابن الخادمة” كان يستخدم العنف اللّفظيّ والجسدي مع جميع زواجاته. وبسبب انتقاداته الجارحة للمرأة في فترة اتّسمت بالدّعوة لتحرّرها، سوف يتعرّض ستراندبارخ إلى تهجّمات شديدة من جانب المناصرات والمناصرين لهذه الدّعوة.

في عام 1907، أسس ستراندباغ مع أوغست فالك مسرحا طلائعيّا. وهو المسرح الذي كان قد حلم به طويلا. وفي البيت الذي أقام في ستوكهولم، والذي تحوّل الآن الى متحف توفي عام 1912، وهو العام نفسه الذي غرقت فيه الباخرة “تيتانيك

الإتحاد

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.