يقولون دائماً إن كرة القدم يجب أن تبقى بعيدة عن السياسة، لكنها لم تكن كذلك يوماً. من فلسفة إيجاد اللعبة أساساً إلى دوافع التشجيع وهتافات الجماهير في الملاعب، إلى مواقف اللاعبين وقرارات اتحادات كرة القدم باستبعاد هذا البلد دون ذاك، كل شيء يشير إلى السياسة.
على أرض الملاعب الألمانية، دارت الأيام الماضية منافسة بين المنتخبات ومدارس اللعب الأوروبية على اللقب القاري. وفي الخلفية كانت سوق كرة القدم تحصد المليارات. لكل قدم ثمن، ركلة قد ترفع ثمن اللاعب في ناديه، وأخرى تعلن نهاية زمنه.
خارج الملاعب، وقريباً منها، كانت معركة أخرى تدور. صراع بين أوروبا الأحادية وأوروبا متعددة الثقافات. فرض اللاعبون من أصول مهاجرة أنفسهم لدرجة بات المشاهد يظن معها أنه يتفرج أحياناً على بطولة أفريقية. هتفت الجماهير للاعبي بلدانها ذوي البشرة السوداء وهم يسجلون الأهداف. بينما كانت جماهير أخرى تهتف هتافات قومية وصلت إلى حد العنصرية أحياناً، “ألمانيا للألمان” و”النمسا للنمسوييين” و”أخرجوا الأجانب من هنغاريا” على أنغام أغنية L’Amour Toujours بعد أن تم اختطافها من جيجي داغوستين على يد اليمين الأوروبي المتطرف. ولم تكن إشارة “الذئب الرمادي” التي رفعها اللاعب التركي ديميرال بعيدة عن هذا الجو.
تزامن ذلك مع قلوب الأوروبيين تتجه إلى “المنارة” باريس. اليمين المتطرف يكاد يصل إلى الحكم. خرج نجم فرنسا كيليان إمبابي عن كرة القدم، لم يتحدث عن مبارة منتخبه، بل دعا الفرنسيين إلى النزول للانتخابات لإسقاط لوبين ورفاقها. وهذا ما كان.
انتصرت الديمقراطية والتعدد في فرنسا، هكذا قالت النخب الأوروبية، لكن إلى حين. فالتجمع الوطني ما زال قادراً على العودة بقوة في انتخابات 2027. وبعدها قد يصبح لعب إمبابي وعثمان ديمبلي وكمافينغا إلى جانب غريزمان فعلاً مقاوماً للأحادية التي يريد اليمين الشعبوي فرضها على كل أوروبا.
لاعب آخر وجّه رسالة “متعددة الثقافات” ضد العنصرية الأحادية. الفتى “المعجزة” لامين جمال سجل هدفاً رائعاً في مرمى الفرنسيين وأوصل إسبانيا إلى النهائي. أصغر لاعب يسجل هدفاً في تاريخ بطولة أمم أوروبا، احتل العنوان مانشيتات الصحف. غير أن الإشارة التي رفعها جمال محتفلاً بالهدف حملت معاني أكبر. الفتى ذو الـ16 عاماً قال بحركات أصابعه ما لم يقله كثيرون من سياسيو اليسار وهم يستسلمون للمد اليميني. شكّل جمال رقم 304 بأصابعه، وهو الرمز البريدي لمنطقة روكافوندا الفقيرة في إسباينا. قال جمال دون أن يتكلم: أنا من هناك، من واحد من أفقر الأحياء في كاتالوينا. الحي الذي ضربه حزب فوكس اليميني المتطرف مثالاً على الأحياء “متعددة الثقافات”. وهو أمر انتبهت له صحيفة ETC السويدية.
كانت إشارة جمال تقول الكثير. الهدف الذي أوصل إسبانيا إلى النهائي رُسم بقدم جاءت مهاجرة ونشأت في حي “موصوم”.
بينما كان جمال يرسل كرة مقوسة جميلة إلى مرمى الحارس الفرنسي مايك مينيان، كان حزب بارتيدو اليميني المحافظ يرفض قبول حصته من اللاجئين الصغار غير المصحوبين بذويهم في المناطق التي يحكمها تحت ضغط من حليفه اليميني المتطرف حزب فوكس.
إنهما صورتان متناقضتان لأوروبا. صراع حول القيم التي ستحكم أوروبا لسنوات طويلة قادمة ربما. ألم يشن حزب SD حرباً دعائية على “تعدد الثقافات”، ألم يقل رئيسه جيمي أوكيسون في خطاب ألميدالين إن “الصراع الرئيسي في السياسة السويدية في المستقبل سيكون: إما الاندماج القسري في فوضى التعددية الثقافية للاشتراكيين الديمقراطيين، أو شروط التكيف مع المعايير والقيم السويدية. نحن نرفض الاندماج مع هذه الفوضى، ليس السويديون هم الذين سيحلون قضية اندماج أشخاص من ثقافات أجنبية”.
توجّه كرة القدم صفعة للفكر الأحادي في أوروبا، وتقدم المنتخبات قصة نجاح “متعددة الثقافات” يمرر فيها الجناح اليمين كرة حاسمة للجناح اليسار، في صورة مصغرة لمجتمعات تُبنى بيد كل سكانها.
سيسدل الستار الأحد على البطولة الأوروبية وسيحمل جمال أو بيلينغهام الكأس وكلاهما من أصول مهاجرة. وسيتباهى أنصار أحد الفريقين على الآخر، غير أن المباراة الكبرى في أوروبا لم تعلن نهايتها بعد.
مهند أبو زيتون