حرية الصحافة هي المحك الحقيقي للديمقراطية. إسكات الأصوات المختلفة أو المعارضة تعبير صارخ عن احتكار الحقيقة، وهذا هو الديكتاتورية بعينها.
السلطات التركية رفضت أمس (الخميس) الإفراج عن الصحفي السويدي يواكيم ميدين. وقالت هيئة الدراسات الإعلامية والقانونية التركية إن ميدين سيحال إلى المحكمة.
ميدين وصل إلى تركيا في 27 مارس لتغطية الاحتجاجات ضد الرئيس رجب طيب أردوغان فتم اعتقاله فوراً بتهمة “إهانة الرئيس” و”الانتماء لمنظمة إرهابية”. تصنيف التهم يبدو من النوع الذي تستخدمه الديكتاتوريات عادة لإسكات الصحافة. ومن غير المعتاد أن تكون السلطات مهمومة بتقديم الأدلة على تهم كهذه.
السلطات التركية تقول إن يواكيم واحد من 15 مشتبهاً بهم في تحقيق بدأ بعد تعليق دمية لأردوغان وسط ستوكهولم في العام 2023. حينها نظمت مجموعة نشطاء تدعى “لجان روج آفا” احتجاجاً تضمن شنق دمية على هيئة أدروغان فقامت الدنيا في تركيا ولم تقعد. ورغم أن المجموعة أكدت لعدد من وسائل الإعلام أن ميدين لم يشارك في هذا التحرك، اعتبرته السلطات التركية متهماً بـ”إهانة الرئيس”.
لا ندري ما الذي تريد السلطات التركية قوله للعالم باعتقال ميدين، وأي عرف يتم إقراره باعتقال صحفي مواطن في بلد آخر بتهمة المشاركة في مظاهرة ببلده (إن صحت مشاركته).
بعد يومين من اعتقاله نُقل يواكيم إلى سجن سيليفري، الذي ارتبط منذ فترة طويلة بسجن منتقدي الحكومة وشخصيات المعارضة.
اعتقال ميدين بحد ذاته لقي إدانة من منظمات عدة، لكن سجنه في سيليفري، أكبر سجون تركيا وأكثرها رمزية سياسية، زاد من المخاوف بشأن معاملة البلاد للصحفيين والمعارضين، حيث وثقت منظمات حقوق الإنسان تجدد ظهور التعذيب وسوء المعاملة في الحجز التركي منذ العام 2016، ويُزعم أن ضباط الأمن يستهدفون مجموعات معينة، بما في ذلك الأكراد وأعضاء حركة غولن واليساريين. وتتحدث التقارير عن الضرب المبرح والتهديدات والاعتداءات الجنسية، التي تهدف إلى انتزاع الاعترافات أو إجبار المعتقلين على توريط آخرين.
صوت خافت
منظمة “مراسلون بلا حدود” والاتحاد الدولي للصحفيين اعتبرا أن اعتقال ميدين ذو دوافع سياسية، مطالبين بالإفراج عنه فوراً.
ورغم مطالبة الحكومة السويدية بالإفراج عن الصحفي، يبدو صوت الخارجية السويدية حتى الآن خافتاً في المطالبة بمواطنها وهي التي اعتادت سماع الصوت العالي من أردوغان في فرض الشروط إبان عملية الانضمام إلى الناتو.
يدفع ميدين، كما يبدو، ثمن رغبته في نقل الصورة، وربما ثمن مواقفه السابقة، وهو الصحفي اليساري الذي انخرط في قضايا الشرق الأوسط وزار سوريا والعراق وتركيا وغطى قضايا الأكراد والنزاعات المسلحة، وألف كتاب “كوباني.. الثورة الكردية والقتال ضد داعش”. واعتقل في العام 2015 مع مترجمه لمدة أسبوع أثناء تغطيته الأوضاع في سوريا.
أياً يكن رأي الصحفي، أعجب البعض أم لم يعجبه، فيجب ألا تكون مهنة الصحافة جريمة. ويجب ألا يعتقل الصحفيون بعيداً عن أهلهم وأحبائهم فقط لأنهم يمارسون عملهم الصحفي، وهو عمل يجب أن يظل قائماً في أصعب الظروف، لأن المعلومة حق للناس لا للسلطة، أي سلطة.
بعد محاولة الانقلاب في تركيا العام 2016، تصاعد القمع، وسقطت البلاد سقوطاً حراً في قائمة حرية الصحافة التي تصدرها “مراسلون بلا حدود” سنوياً، لتصل إلى المرتبة 158 من أصل 180 دولة. ويبدو اعتقال الصحفي السويدي اليوم أحد تجليات هذا السقوط الحر.
“الصحفيون لا يموتون، بل يُقتلون، كما أنهم لا يقبعون خلف القضبان من تلقاء أنفسهم، بل إن الأنظمة هي التي تزج بهم في السجون، أضف إلى ذلك أنهم لا يختفون هكذا دون سبب، بل إنهم يُختطفون. وهذه كلها جرائم تنتهك القانون الدولي، ومع ذلك فإنها غالباً ما تمر دون عقاب، علماً أنها غالباً ما تقف خلفها حكومات دول أو جماعات مسلحة”. هكذا يكتب تيبو بروتان المدير العام لمنظمة مراسلون بلا حدود.
نكتب ذلك ونحن نتذكر بأسى كبير أيضاً مقتل مئات الصحفيين في العالم العام 2024، معظمهم على يد الجيش الإسرائيلي في غزة، واعتقال المئات منهم في سجون مختلفة حول العالم. إنه قدر الصحافة الدائم في مواجهة الوحشية والديكتاتورية.
الصحافة ليست جريمة، وحماية الصحفيين هي حماية للحقيقة ذاتها.
مهند أبو زيتون