القوانين يجب أن تطبق دائماً لكن ماذا عن العقلانية؟

: 4/6/23, 4:27 PM
Updated: 4/7/23, 1:06 PM
القوانين يجب أن تطبق دائماً لكن ماذا عن العقلانية؟

رفض سائق باص صعود فتاة مدرسة صغيرة للذهاب إلى بيتها بعد انتهاء دومها، سائق الباص حسب قناعاته مارس القانون، لأن تذكرة الفتاة منتهية وغير صالحة لركوب الباص، بيت التلميذة التي كانت في العاشرة من عمرها، يبعد حوالي 20 كم عن مدرستها في إحدى المناطق النائية غرب السويد. القانون قد لا يحاسب هذا السائق، حتى لو تسبب بترك طفلة وحيدة وبعيدة عن منزلها أمام اقتراب عتمة الليل، وربما هو يعتقد أنه خدم مؤسسته التي يعمل فيها وأراح ضميره المهني، بهذا التصرف.

لكن من ناحية أخرى يعتبر ما قام به السائق سلوكاً غير أخلاقي، أو على الأقل غير عقلاني، تصرف قانوني ظاهرياً وغير عقلاني مضموناً.

ربما مثل هذه القصة تتكرر يومياً معنا في حياتنا اليومية، ليس بالضرورة مع سائقي الباصات، لكن مع كثير من الموظفين في دوائر مختلفة، ممن يفهمون القانون وينفذونه من دون أي رؤية كاملة لعواقب ما يقومون به. كأنهم يعتبرون أنفسهم أحصنة وضعت على رؤوسها الغمائم، تماما كالتي يتم وضعها على عينيّ الحصان لتحدّ من الرؤية الجانبية له، وذلك بهدف حمايته من الخوف ومنعه من التشتّت. وكما نعلم فإن الخالق أنعم على الحصان بعينيين تريان بمجال رؤية يصل إلى 350 درجة، من أجل حمايته عند رؤية الخطر، الطبيعة منحتنا العيون والعقل لا من أجل أن نغطيها بورق القوانين وصفحاته الصماء.

لا أحد ينكر أهمية القوانين وتطبيقها، لكن هناك ما يسمى العقلانية أو الفطرة السليمة التي تحتم علينا ألا نطبق القانون بكل حذافيره البيروقراطية، في حالات ومواقف وظروف معينة، مصطلح sunt förnuft باللغة السويدية ربما لا يكون مستخدماً لدى الأغلبية بالحياة العامة، لكنه مهم لتوضيح لماذا يجب ألا نطبق القوانين ونحن نرتدي على عيوننا غمائم الأحصنة. هذا التعبير السويدي حرفياً يعني الفطرة السليمة ومجازاً يعني العقلانية.

لعل أكثر ضحايا الموظفين ممن لا يدركون معنى تحكيم العقلانية واستخدام فطرتهم السلمية عند تطبيق التعليمات والقوانين هم أصحاب الملفات لدى مصلحة الهجرة، كم من قرارات ظالمة أصدرها موظفون فقط لأنهم يتعاملون مع الملفات وكأنهم ينفذون حل مسائل رياضيات صماء. مئات آلاف وربما عشرات الآلاف حرموا من الإقامات لأسباب واهية وحتى سخيفة، ومنهم من يعيش في السويد كلاجئ غير شريعي من دون أوراق، لسنوات وسنوات، يشكلون خطراً اجتماعياً على السويد ومنهم من يشكل حتى خطراً أمنياً، كل ذلك لأن الموظف “النزيه” اكتشف أن أحد أرقام معادلة الرياضيات في معالجة ملف ما ناقصة أو غير راكبة.

الأدهى من كل ذلك حين يعرف هذا الموظف أن الشخص الذي سيحرمه من الإقامة، ليس لديه مجال للسفر لبلده أو إلى أي بلد آخر، تماماً كما حدث لشخص فلسطيني بقي لمدة 20 سنة بلا إقامة، كتبت عنه الكومبس قبل أيام، يحمل وثيقة مصرية لا تخوله دخول حتى مصر، صاحبة السلطة التي منحته الوثيقة، ملف مثل هذا الشخص وبعد استنفاد الطرق القانونية التي تكلف الدول مئات الآلاف، يُنقل عادة إلى شرطة الحدود الموكلة بتسفيره، وغالباً ما يسافر معه على الأقل شرطيان، وإذا كانت عائلة من أربع أشخاص ترافقهم مجموعة من الشرطة على عدد أفراد العائلة، وتطير معهم إلى المطار.

في حالة الشخص الفلسطيني، وبسبب عدم وجود دولة تستقبله، سيبقى هكذا معلقاً دون إقامة ولا حقوق ولا حتى إمكانية تسفير. وفي حالات أخرى كانت الشرطة تسافر مع الشخص والعائلة المرحلة، ولا يتم استقبالهم، وبدل من أن تقتنع الهجرة وتعطيهم الإقامة، وبعد كل هذه المصاريف، التي تكلف دافع الضرائب، يتركونهم أيضاً في البلد معلقين.
وحدث أن أعادت الشرطة طالبي لجوء إلى بلدانهم، وكان مصيرهم إما القتل أو الاعتقال.

ولعل الصور النمطية في أذهان الموظفين عمن هم من أصول مهاجرة، في دوائر مثل السوسيال والتأمينات الاجتماعية، تزيد من الطين بلة، كما يقال، ويستخدم الموظف كل بيروقراطيته وحنكته الوظيفية لكي يغيّب الفطرة السليمة ويبتعد عن العقلانية في التعامل مع الناس. وهنا للأسف قد لا يستطيع صاحب القضية أن يتصرف هو الآخر بحكمة وهدوء ويستخدم القانون أيضاً لاسترداد حقه أو على الأقل التعامل مع الإجحاف وتصحيحه، فتحدث المشاكل والمصائب التي نسمع عنها بين فترة وأخرى، خصوصاً في مواضيع تخص قانون الرعاية القسرية للأطفال.

طبعاً نحن نتحدث هنا عن حالات موجودة، وليس عما هو سائد إجمالاً، لأن التحدث عن الخطأ وكشفه والإشارة إلى الخطأ ومن اقترف الخطأ، هو مهمة الصحافة في الدرجة الأولى، من أجل حماية المجتمع.

نحن نقول دائماً للجميع ونشجعهم على ألا يسكتوا عن الظلم ولا يتهاونوا في تحصيل حقهم، ويجب عدم السكوت أو الخوف من دوائر الدولة وحتى إن كانت الشرطة، لأن الشرطي هو موظف موجود لحمايتك ولحماية المجتمع، وليس من أجل قمعك أو إسكاتك.

في المقابل علينا أن نبقى ضمن أطر القانون، نشتكي ونتكلم ونتصرف ضمن ما تسمح لنا به القوانين، خصوصاً إذا فرضنا نحن فطرتنا السليمة وعقلانيتنا في تطبيق قوانين البلد والتي هي في النهاية يجب أن تكون لصالحنا. فلا ينفع أن يقوم أب الطفلة التي مُنعت من أخذ الباص، بمعاقبة سائق الباص بنفسه، أو كما يحاول البعض هنا الأخذ بالثأر من مجرمين بتهديد أقاربهم وتخويفهم ومنعهم من مواصلة حياتهم، لأن أحد أفراد عائلتهم ارتكب جريمة حتى لو كانت فظيعة، فالمنطق يقول إننا نعيش في دولة قانون، والدولة هي التي ستنزل القصاص بالجاني، ولا ذنب لأهله ولا لعائلته بما اقترفت يداه.

ولكي نطالب الموظفين بالعقلانية عند تطبيق القانون، علينا أن نكون نحن أيضاً عقلانيين في تصرفاتنا وردود أفعالنا.

د. محمود آغا

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.