أثبتت سياسة فرض الإملاءات على أوروبا والصين فشلها، ولا يمكن أن تُفرض هذه السياسية على دولٍ بحجمِ وقوةِ مصر والسعودية. والأهمُّ من كلِّ ذلك، أننا سمعنا ردَّ السيدة الغزية، التي تمثِّل المعنيين في “صفقة ترامب”، وهو ردٌّ لفت نظر مراسلة راديو السويد، لدرجة أنها وضعته كما هو في تقريرها

انشغل العالم كله بتصريحات ترامب الخارجة عن كلِّ ما هو متعارف عليه ضمن القوانين والأعراف الدولية، وخالفت حتى كلَّ ما هو مألوفٌ من أخلاق واعتبارات إنسانية. انشغل العالم ولا يزال ينشغل عبر وسائل الإعلام والقادة السياسيون والمحللون الاستراتيجيون بتفسير مدى جدِّيَّة وواقعية تصريحاتٍ مثل ضمِّ كندا للولايات المتحدة، وشراء جزيرة غرينلاند، والاستحواذ على قناة بنما، وشراء غزة وتهجير سكانها من أراضيهم. لكنَّ ردًّا واحدًا فقط من سيدةٍ فلسطينية بدا أكثر صدقًا وواقعيةً من كلِّ هذا السيل الكبير من التحليلات والتكهنات. السيدة، وهي من سكان غزة، ردَّت قبل يومين على سؤالٍ لمراسلة راديو السويد حول رأيها بخطة ترامب بهذه الجملة ” خلي يأكل …ويظل بحاله” راديو السويد ترجم هذا التصريح كما يلي: Han kan äta skit och sluta lägga näsan i blöt, säger en kvinna i Gaza 

مراسلة راديو السويد سيسيليا أودين هي صحفيةٌ مخضرمةٌ وخبيرةٌ بشؤون الشرق الأوسط، وعاشت في مصر والأردن، وجابت الأراضي الفلسطينية، لذلك هي تعرف وتعي ما تعنيه هذه السيدة بكلامها، فهو أكثرُ من مجردِ كلمات.

 المعنى واضحٌ ويُبيِّن أنَّ هذه السيدة تريد أن تخبر ليس فقط الفلسطينيين والعرب، بل أيضًا الكنديين والدنماركيين وسكان غرينلاند وبنما وغيرهم، بأنه لا داعي للذعر المُبالَغ فيه، لأنَّ سلوك ترامب وتصريحاته المتطرفة غير قابلةٍ للتطبيق، وهو ليس مُخوَّلًا حتى بطرحها.
السيدة الفلسطينية من غزة ربما تعرف أكثر من المحللين والقادة والمفكرين أنها لن ترحل عن أرضها، لأنها ليست ساذجةً بما يكفي لتكرار مأساة النكبة عام 1948، وهي تعرف أن الحل الواقعي والمنطقي هو فقط بزوال الاحتلال وبناء السلام، الذي ينادي به العرب والعالم ليلًا ونهارًا، سواء عبر حلِّ الدولتين أو دولةٍ واحدةٍ ديمقراطيةٍ لشعبين.

 هذه السيدة، وبعفويةٍ، أجابت واختصرت ما ذهب إليه البعض، وهو أنَّ ترامب، وبعد نصيحةٍ من أحد مستشاريه، يريد أن يستغلَّ شغف وسائل الإعلام اللاهثة وراء الإثارة والأخبار المثيرة، وقد قيل له إنَّ الصحفيين هم مجموعةٌ من الأغبياء، يمكن أن ينشغلوا بسهولةٍ بتصريحاتٍ مثيرةٍ، ما يسمح بتمرير سياساتٍ داخليةٍ وخارجيةٍ مهمةٍ جدًا، ولكنها أقلُّ إثارةً للاهتمام، ومن دون ضجةٍ وانتقادات، مثل سحب الدعم الأمريكي عن المنظمات الإنسانية، وتقليل اعتمادات البحث العلمي والجامعات، وحتى الخدمات الاجتماعية، إضافةً إلى تسريح أعدادٍ من الموظفين. كلُّ هذا حدث ويحدث دون ضجيج، بسبب الضجيج الأكبر الذي أحدثه ترامب بتصريحاته الاستعراضية.

 يجب ألَّا نُغفل أيضًا العواقب التي لم يحسب لها ترامب حسابًا دقيقًا جراء تصريحاته، التي أبعدت أمريكا عن أوروبا أكثر من المحيط الذي يفصل بين القارتين، واستفزَّت الصين، التي يبدو أنها قد هيَّأت نفسها بشكلٍ جيدٍ وغير متوقعٍ للردِّ على خطوات ترامب التصعيدية ضمن الحرب التجارية معها. كما أنه من الممكن أن تعيد تصريحات ترامب بشأن غزة الاعتبارَ للقضية الفلسطينية، فتصبحُ مرةً أخرى قضيةَ العرب المركزية، بعدما رأت بعضُ الدول العربية مصلحتها في الابتعاد عن هذه القضية.

 المهم أنَّ أفكار دونالد ترامب، خصوصًا تلك المتعلقة بتهجير سكان قطاع غزة، لا يُتعامل معها كقدرٍ محتوم، لأنها ببساطةٍ غير قابلةٍ للتطبيق قسرًا، إذا اكتشف ترامب أن العرب، وخصوصًا مصر والسعودية والأردن، لديهم ما يكفي من الإرادة والسيادة لإفشال مخططاته. وكما أنَّ سياسة فرض الإملاءات على أوروبا والصين ثبت فشلها، فهي لا يمكن أن تُفرض على دولٍ بحجمِ وقوةِ مصر والسعودية. والأهمُّ من كلِّ ذلك، أننا سمعنا ردَّ السيدة الغزية، التي تمثِّل المعنيين في “صفقة ترامب”، وهو ردٌّ لفت نظر مراسلة راديو السويد، لدرجة أنها وضعته كما هو في تقريرها.