في انتظار القطار

: 3/17/23, 12:18 PM
Updated: 3/17/23, 12:18 PM
في انتظار القطار

تأخّر القطار. في بلدان الغرب المتحضر يتأخر القطار أيضاً. الأساطير التي كنتَ تسمعها في الشرق عن دقة قطارات الغرب مبالغ فيها قليلاً. لا جديد، أحلام المستشرقين عن الشرق كانت كذلك أيضاً، هكذا يقول غوته حين يتحدث عن “الاغتراب” وكيف يدفع الناسَ للحلم بعالم آخر متخيل، فيُسقطون أخيلتهم على الجزء الذي لم يعرفوه من العالم. وكذلك جاء أبناء الشرق إلى هنا ومعهم أحلامهم وخيالاتهم.

تمر الدقائق، وعلى الرصيف وجوه يُخفي البرد تعابيرَها. لا أحد يتذمر، كأن الانتظار في البرد طقس يومي لهؤلاء المنشغلين بهواتفهم. تأخذك الذاكرة إلى زحمة مواقف الباصات هناك في بلادك. دراجة الشاي، وبائع السحلب، وعربة الكعك، عيون يأكلها القلق، وأصوات تخترق أذنك، فيها ما فيها من شتم ومن أنين.

على رصيف القطار فتاة بيضاء تنظر إلى الساعة في حركة متواترة كأنها تحسب الثواني. متلهفة هي للقاء، لعله حبيب أو صديق، أو لعلها لهفة إلى حلم ما. لا قلق يجتاح عينيها رغم التوتر. إنْ تأخر القطار فسيأتي في النهاية، وإن فاتها تلحق بآخر. تشعر كأنكَ رأيتَها من قبل. في كل محطات القطارات، هي التعابير المعتدلة نفسها، لا حزن، ولا فرح، لا غضب، ولا يأس.

على بعد أمتار قليلة فتاة سمراء تضع على أذنيها سماعات. تدندن فيما يرتجف جسمها برداً. لعلها تسمع فيروز، أو ما جدة الرومي، تلك موضة قديمة. تسمع سعد المجرد على الأغلب، ولعلها تدندن “انت معلم” وليتها لا تتعلم منه. أخبار قضيته مع الفتاة الفرنسية تملأ السوشيال ميديا لكنك لا تعرف آخر تطوراتها. مطرب مغربي وفتاة فرنسية وتهمة بالاغتصاب، للقصة كل عناصر الانتشار اللازمة، فلا عجب أن تحوز كل هذه “الأهمية”. مغنو الراب هنا يطلقون النار. كيف تجتمع الموسيقى مع الرصاص؟ ولماذا يحظى مغنٍ يلبس ساعة فاخرة من أموال المخدرات بهذه الشهرة؟ لا إجابة لديك.

يخترق سمعك صوت طفل عربي “ماما برد”. “اصبر ماما” ترد الأم. لماذا يبرد أبناؤنا أكثر من غيرهم؟ أهو البرد المعشعش في الجينات الذي ورثناه من جدران لا تعرف الدفء، أم أنه الخوف من الطبيعة نورثّه أبناءنا دون أن ندري فلا يعتادون طقوسها؟ يشتعل الحنين في قلبك إلى أيام كانت فيها الحارة ملعباً، حيث لا ملاعب، وكان فيها عمود الكهرباء عارضة مرمى. الملاعب هنا تملأ النظر، لكنها فارغة.

يأتي قطار ليس قطارك. قطارك ما زال متأخراً. يمر بسرعة كشريط سينمائي، تتراءى لك صورة ذاك القطار الذي كتب عليه سياسي من SD “المحطة التالية كابول”، كانت ألوانه بالأزرق والأصفر على ما تذكر. تقول في نفسك: ما لي أنا وكابول؟! وماذا سيأخذني إليها؟! ألستَ مهاجراً؟ّ إذاً كابول عاصمتك الرمزية ومأواك.

مواطن لا مهاجر، لقد بدأت تنتمي لهذه الأرض، أصبح ثلجها شرياناً من شرايينك. مواطن صالح أنت، تحترم القانون وتدفع الضرائب ولا ترمي أعقاب السجائر على الأرض، فماذا بعد؟!

يأتي قطار ليس قطارك. قطارك ما زال متأخراً. تتذكر أولئك الذين فاتهم قطار الحياة. نسوا في زحمة البحث عن الحياة أن يعيشوا، لم ينتبهوا للتفاصيل الصغيرة، أو لمتعة فنجان القهوة يُشرب على مهل، أو لقصيدة عابرة في كتاب أو عيون. تتذكر أولئك الذين حوّلت ظروف الحرب والقهر والقمع حياتهم إلى ما يشبه الموت. تتذكر ما هو أقسى من الموت. تود أن تبكي، تخونك الدموع. لعلها تجمدت.

يمر الوقت بطيئاً فتكتشف أن الفتاتين البيضاء والسمراء صديقتان، وأن حديثاً يدور بينهما عن ضرورة تظاهر شباب المدينة ضد الغلاء وارتفاع أسعار الطاقة ومعاناة الأسر الضعيفة وصمت الحكومة المطبق والناتو والحرب وروسيا. كل هذه الحيوية تفجرت حين بدأتا الحديث معاً. وتود لو تضيف للقائمة: مشاعر الإنسان أيضاً.

يأتي قطار ليس قطارك. قطارك ما زال متأخراً.

مهند أبو زيتون

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.