الكومبس – خاص: سمعت صوت إطلاق الرصاص والصراخ بجوار بيتها، فخرجت مسرعةً لترى ما الذي يحدث؟ ولم تكن تعلم أن تلك هي الأمتار الأخيرة التي ستمشيها، حيث أردتها تلك الرصاصة التي استقرت في رأسها دون أن تعلم ما حدث ولِمَ حدث!
هي اللحظات الأخيرة للمرأة الخمسينية التي فقدت حياتها قبل عدة أيام ببلدة الكرامة في ريف الرقة الشرقي في نزاع عشائري شَبَّ بين عشيرتين بشكل مفاجئ لتكون ضحية جديدة من ضحايا النزاعات العشائرية التي عادت لتنخر في جسد المجتمع المنهك بالحروب والحصار والفاقة.
العشائر في الجزيرة السورية
وتُشكل العشائر العربية الجزء الأكبر ضمن التركيبة الاجتماعية التي تسكن في منطقة الجزيرة السورية، حيث يُقدِّر باحثون في الشأن الاجتماعي والتراثي نسبتهم بأكثر من 90 بالمئة من إجمالي السكان في تلك المنطقة. وتتكون منطقة الجزيرة من محافظات الرقة والحسكة ودير الزور، وتبلغ مساحتها نحو 55 ألف كيلومتر مربع ، أي نحو 40 بالمئة من مساحة سورية.
وفي خضم الأحداث والتطورات التي شهدتها سوريا خلال سنوات الحرب، والتي انعكست على هذه المنطقة بتبدل أشكال السيطرة عليها، أصبحت تشغل جزءًا مهمًا في وسائل الإعلام، حيث تتناول التطورات السياسية والعسكرية فيها. إلا أن هناك أحداثًا بالغة الأهمية تحدث كل يوم لم تنل نصيبها من الاهتمام، رغم أنها قضايا مصيرية. وحديثنا هنا عن النزاعات القبلية والعشائرية التي أصبحت هاجسًا يؤرق سكان المنطقة ويقض مضاجعهم، فلا تكاد تنطفئ نيران معركة عشائرية في مكان ما حتى ينشب عراك جديد في مكان آخر.
مئات النزاعات سنوياً
وليس من السهل الحصول على إحصائية دقيقة لعدد هذه النزاعات، لكن هناك شبكات محلية وثقت حدوث أكثر من 300 نزاع عشائري خلال عام 2024، ذهب ضحيتها نحو 400 مدني، كما ترتب عنها دفع مبالغ مالية كبيرة في بعض الأحيان تحت مسمى “دفع دية”.
وفي هذا الإطار، يؤكد شيخ عشيرة من أبناء المنطقة أن الرقم الحقيقي أكبر بكثير، مستدلًا بما يحدث معه على الصعيد الشخصي، حيث يقضي جل وقته في حل نزاعات بين أفراد بعض العشائر.
ويضيف الشيخ: “كل يوم يأتيني العديد من المتخاصمين، وأحيانًا تكون القضية سليمة، بمعنى أنها مقتصرة على الأمور المادية، والكثير منها للأسف يكون دامياً.”
الشيخ انتقد سلطات “قسد” التي تسيطر على المنطقة، ووصفها بأنها لا تفعل أي شيء إزاء هذه المشاكل، معتبرًا أن الدور الذي يقوم به شيوخ العشائر في عقد مجالس صلح أكبر بكثير مما تفعله الإدارة الذاتية، حسب قوله.
لماذا تحدث النزاعات؟
يقود البحث خلف سبب هذه النزاعات الكثيرة والمتكررة إلى أن معظمها له جذور قديمة، أما النسبة الأقل فتعود لمشاكل حديثة.
وأرجع الباحث الاجتماعي خليل محمد، المهتم بشؤون القبائل، السبب الرئيسي لحدوث هذه النزاعات إلى وجود خلافات قديمة بين بعض العشائر، نتجت عن سياسات حزب البعث الذي قام بترحيل عشائر عربية من مناطق سكنها وتسليمهم أراضيَ تم الاستيلاء عليها تحت ذريعة التأميم.
ويضيف محمد: “هذه السياسات خلقت شرخًا بين بعض العشائر، لكنها ظلت كامنة، وحين حدثت الثورة، وجد البعض الفرصة لإيقاظها لأجندة تخدم سياساتهم.”

غياب التعليم غذى نزعة التعصب العشائري
عرفت المنطقة الشرقية منذ أيام النظام السابق، وقبل الثورة، بأنها من المناطق النامية تعليميًا، وهذا ما سمح بتغلغل مفاهيم اجتماعية مبنية على قواعد خاطئة مثل التعصب للعشيرة، وفق المراقبين.
ويرى الدكتور راشد حسين (مدرس جامعي) أن تخلف التعليم ووسائله في هذه المناطق غذى منطق العشيرة والعصبية القبلية، مبينًا أن هناك أرقامًا مرعبة حول مدى تفشي الأمية في المجتمع في تلك المحافظات، حيث تصل نسبة الأمية إلى نحو 30 بالمئة من إجمالي السكان.
ويضيف راشد: “تفاقمت هذه المشكلة مع سنوات الحرب، حيث بات التعليم يقتصر على جهود خاصة يبذلها بعض أولياء الأمور، في حين يحجم الأغلبية عن متابعة تعليم أبنائهم بسبب التكاليف المادية المرتفعة.”
ويرى راشد أن الفوضى الأمنية التي حدثت في الأعوام الأولى للثورة أيقظت العصبية القبلية، حيث بات الجميع يبحث عن طرف قوي يمثله ويستند إليه في مثل هذه الأوضاع.
البطالة وقلة فرص العمل ووسائل التواصل الاجتماعي
مرت المنطقة بحروب طاحنة دمرت بُناها التحتية، كما تسببت في هجرة كوادرها. تلك الظروف القاسية والمستمرة منذ عشر سنوات هي ما أدى لتحويل معظم سكان هذه المناطق إلى عاطلين عن العمل، وهذا ما اعتبره أحد الشيوخ من أبناء منطقة دير الزور سببًا لِتجمهر الشباب في أماكن عامة، مما يعزز إمكانية حدوث احتكاكات ونزاعات بينهم، مما يجعل الاقتتال الدموي احتمالًا قائمًا في أي وقت.
ويضيف الشيخ: “مجرد أن يشب نزاع بين شابين، يقوم كل منهما ببث خبر هذا النزاع على وسائل التواصل الاجتماعي من خلال مجموعات وغرف مخصصة لشباب العشيرة طلبًا لِعَونِهم، فيجتمع حشدٌ مدجج بالسلاح لمهاجمة الطرف الآخر، وهذا أيضًا يحدث مع الطرف الآخر، حيث يجمع كل طرف مجموعته، وينجم عنها صراعات دامية.”

فوضى السلاح
خرجت مناطق شمال شرق سوريا بشكل متتابع عن سيطرة النظام السوري منذ بداية عام 2013، وفي كثير من الأحيان، كانت التشكيلات العسكرية التابعة للنظام تنسحب من ثكناتها مخلِّفةً وراءها كميات كبيرة من الأسلحة.
ويحدثنا أحد المقاتلين السابقين في كتائب الجيش الحر، ممن عاصروا تلك الفترة، أن السلاح الذي تم الاستيلاء عليه في تلك الفترة وقع في يد العشائر من خلال أبنائها المنضمين إلى تلك الفصائل، مؤكدًا صعوبة جمع هذه الكميات من السلاح إلا في حال وجود حكومة قوية تستطيع التفاهم مع العشائر.
الثأر يطال جميع أفراد العشيرة
إذا كنت غير متعصب لِمَنطق العشيرة، وتؤمن بأفكار ليبرالية أو غيرها من الأفكار التي تتعارض مع العصبية العشائرية، فهذا لن يشفع لك في النأي بنفسك بعيدًا عن هذه الصراعات، فمنطق الثأر والمطالبة بالدم لا يقتصر على القاتل أو عائلته فقط.
ولعل المغالاة في طلب الثأر من بعض العشائر يجعل طالب الثأر يستهدف شخصًا ذو مكانة اجتماعية مرموقة، وتحت هذه القاعدة، دفع الكثير من الناس ثمنًا لدمٍ لم يرتكبوا جريمته.
وأوضح أحد وجهاء العشائر في تلك المنطقة أن طلب الثأر من جميع أفراد العشيرة عاد للظهور مجددًا.
وأضاف الوجيه: “حين ينشب أي نزاع من هذا النوع، نحاول تسكين الأمور بين الطرفين، وننصح عائلة القاتل وأقاربه بمغادرة المكان الذي يتواجدون فيه، ريثما يتم إجراء محاولات للصلح بين الطرفين.”
التعصب القبلي يتعارض مع قيم الدين الإسلامي
يعتنق الغالبية العظمى من سكان هذه المناطق الدين الإسلامي، وهذا ما جعل عددًا من الدعاة ورجال الدين يدعون في جلساتهم ومنابرهم إلى الحدِّ من هذه الظاهرة السيئة، وتوضيح حجم الخطأ الذي يرتكبه بعض الشباب في الانسياق خلف عصبيات قبلية تنعكس آثارها السلبية على المجتمع بِرمَّته.
ويؤكد الشيخ والداعية محمد حبيب، الذي يعد أحد الذين حاربوا هذه الظاهرة في المنطقة، أن الدين الإسلامي كان حريصًا على منع التعصب القبلي، ونهى عن ذلك في مواضع كثيرة، سواء في القرآن الكريم أو السنة النبوية.
موضحًا أن عدم فهم هذه النصوص يؤدي إلى وقوع الناس في ما لا يُحمد عقباه.
واستدل الشيخ حبيب بالفهم الخاطئ لحديث نبوي: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا” حيث فهمه البعض على أنه وجوب مناصرة الأخ أو القريب في جميع الأحوال، لكن الحديث له تتمة، وهي أن نصرة الأخ إذا كان ظالمًا تكون بمنعه عن ظلمه.

سلطة قسد تغمض عينًا وتفتح الأخرى
تسيطر قوات سوريا الديمقراطية على هذه المنطقة منذ ثماني سنوات، ويتحدث أبناء المنطقة عن أن الصراعات والنزاعات العشائرية موجودة منذ زمن، لكنها تزايدت بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة، وهو ما فسروه على أنه تراخٍ مقصود من سلطات قسد في مكافحة هذه الظاهرة.
ويرى ناشط سياسي من أبناء الحسكة أن سلطة “قسد” تتعمد ترك مثل هذه النزاعات مستمرة، مما يساعدها على تمرير سياساتها وبسط نفوذها وفق مبدأ “فرق تسد”.
ويضيف الناشط: “بدا ذلك جليًا من خلال طريقة تعاطيها مع مثل هذه النزاعات، حيث تمتنع عن التدخل في أي نزاع، وتنتظر حتى ينتهي لتقوم بعدها بالبحث عن المتورطين في النزاع، في حين أنها تستنفر جميع قواتها وأجهزتها في حال كانت هناك مظاهرة مدنية سلمية في مكان ما، ثم تودع جميع المشاركين في سجونها.”
دفع “الدية”: ضريبة على الفقير وسلاح ذو حدين
يبذل الوجهاء وشيوخ عشائر وغيرهم جهودًا كبيرة لعقد مجالس الصلح بين الطرفين المتقاتلين، ويعتبرون أن قمة نجاح مساعيهم في تطويق خلاف ما هو الوصول إلى إقناع أهل المقتول بالقبول بأخذ “دية”، وهو مبلغ مالي يدفع بدلًا عن دم قتيلهم إلى أولياء الدم.
ويعتقد الباحث الاجتماعي المتخصص في شؤون القبائل أن دفع الدية يسهم في إنهاء خلاف ما وتطويقه، لكنه قد يشجع البعض على استسهال القتل، حيث تسوِّل للقاتل نفسه أنه مهما فعل، فهناك عشيرة تحميه وتقف خلفه وتدفع دية أي قتيل يقتله.
ويؤكد أن دفع الدية أصبح كالضريبة التي تُفرض على جميع أفراد العشيرة، وهو ما يرهق الفقراء المثقلين بمشاكل أخرى، فهم أحوج لتلك الأموال بدلًا من دفعها عن تصرفات متهورة يقوم بها بعض الأفراد.
وقد وصل دفع الدية في بعض الأحيان إلى مبالغ كبيرة بلغت نحو 50 ألف دولار.
صالح حمد