انسحاب الحريري.. مؤشر على انهيار لبنان ما بعد الحرب الأهلية

: 1/26/22, 3:41 PM
Updated: 1/26/22, 5:42 PM
قرار سعد الحريري بالانسحاب من الحياة السياسية قد يتراجع عنه إذا تغيرت الظروف وزالت الأسباب!
قرار سعد الحريري بالانسحاب من الحياة السياسية قد يتراجع عنه إذا تغيرت الظروف وزالت الأسباب!

رغم التخمينات والتسريبات، شكل قرار سعد الحريري بالانسحاب من الحياة السياسية صدمة في لبنان والمنطقة، وقد يؤسس لقطيعة مع النظام اللبناني، ما بعد الحرب الأهلية، كما رسمته اتفاقية الطائف.

في خطاب تلفزيوني عاطفي مزج بين ذكريات الماضي ودور الأب / الزعيم ومصير لبنان، حسم سعد الحريري ومعه “تيار المستقبل” الذي يتزعمه، مستقبل دوره في الحياة السياسية اللبنانية على المدى المنظور، إذ قرر الانسحاب من المشهد السياسي بالكامل والعزوف عن المشاركة في الانتخابات التشريعية المقبلة. وأكد الحريري أنه لن تكون هناك “أي ترشيحات من تيار المستقبل أو باسمه”.

ورغم أن الرأي العام اللبناني، كما الإقليمي كان يتوقع خطوة الحريري بعد سلسلة من التسريبات التي استبقت خطابه، غير أن القرار كان له وقع الصدمة لدى الأنصار كما لدى الخصوم السياسيين. سبب خطوة الحريري تلخصها جملة مفتاحية في خطابه حين قال “لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الايراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة”. قرار الحريري يأتي في سياق داخلي وإقليمي بالغ الدقة، يعاني فيه لبنان من وطأة أزمة مركبة سياسية واقتصادية ومالية منذ العام 2019.

فهل يئس الحريري أم أنهكته 17 سنة، أمضى جلها في جهود استنزاف فرضته تقلبات الحياة السياسية اللبنانية، سعى فيها حسب قوله، لأن يكون وفيا لإرث والده رفيق الحريري الذي اغتيل العام 2005، في قلب بيروت في سياق سلسلة اغتيالات هزت حينها لبنان والمنطقة. الحريري أكد أن مشروع والده السياسي كان يقوم على تفادي الحرب الأهلية بأي ثمن وبضمان حياة كريمة للبنانيين. وأوضح في خطاب تبرير انسحابه، أنه نجح في تحقيق الهدف الأول وفشل في الثاني. وتعمل إيران على استغلال الأزمة الحالية لزيادة نفوذها في المنطقة، ما يضع لبنان على فوهة الاستقطابات الإقليمية في المنطقة. صحيفة “هاندلسبلات” الاقتصادية الألمانية كتبت في الصيف الماضي (19 يوليو 2021) أن الفوضى الحالية في لبنان تقوي “ميليشيا حزب الله الإرهابية” المدعومة من طهران. وهذا ما من شأنه أن يغير موازين القوى في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

الفاجعة ألقت بسعد الحريري في معترك السياسة

ذاكرة لبنان الحديثة مليئة بمآسٍ وفواجع كانت عائلة الحريري في قلبها. فقبل 17 عاماً، شهد وسط بيروت جريمة اهتز لها العالم، حين اغتيل والد سعد، رفيق الحريري، أصابع الاتهام وجهت لنظام الأسد وحليفه حزب الله. بعدها وجد سعد الحريري نفسه مقذوفاً به إلى المعترك السياسي اللبناني بالغ التعقيد الذي تتداخل فيه الحسابات الداخلية بالرهانات الإقليمية. وقد اغتيل الحريري، صحبة 14 شخصا آخرين في 14 فبراير 2005 في اعتداء استعمل فيه حوالي ألفي كيلوغرام من مادة “تي.إن.تي” شديدة الانفجار. وبزغ اسم الراحل في الساحة اللبنانية بداية الثمانيات كفاعل اقتصادي حاول التخفيف من الآثار المدمرة للاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.

على المستوى السياسي لمع نجم رفيق الحريري على هامش رعاية السعودية لمؤتمر الطائف الذي وضع نهاية للحرب الأهلية اللبنانية. المؤتمر تمخض عن اتفاق رسم معالم المشهد السياسي اللبناني عبر معادلة دقيقة تُقتسم بموجبها السلطة عبر نظام محاصصة يوزع المناصب الرئيسية بين المكونات الدينية الثلاثة الكبرى في البلاد (المسيحيين والسنة والشيعة). وقاد رفيق الحريري بعدها خمس حكومات بشكل متفرق بين عامي 1992 و2004. ولا يزال اغتياله حدثاً مؤسساً في المشهد السياسي اللبناني من حيث ارتداداته المؤثرة إلى يومنا هذا. الاغتيال عمق جروح السياسة في لبنان بين مختلف الأحزاب والطوائف، خصوصاً أن الجريمة وقعت في زمن كان نظام الأسد في سوريا يمارس فيه وصاية كاملة على لبنان عبر حليفه حزب الله. وشهران فقط بعد تلك الجريمة، غادرت القوات السورية لبنان تحت الضغط الدولي، بعد تواجد دام 29 عاماً. وفي عام 2020 أدانت محكمة مدعومة من الأمم المتحدة عضواً في جماعة حزب الله المدعومة من إيران بالتآمر لقتل رفيق الحريري. غير أن الحزب نفى أي دور له في عملية الاغتيال.

نزع سلاح حزب الله وفشل النخب السياسية

يشكل سلاح حزب الله أحد أكبر القضايا الخلافية في لبنان، بين من يرى فيه “سلاح مقاومة” ومن يعتبره جيشاً موازياً للجيش اللبناني، يضعف سلطة الدولة. وكان سعد الحريري قد جعل في البداية من نزع سلاح الحزب قضية مركزية، قبل أن يضعها جانباً، ما جلب له انتقادات حلفائه في الداخل والخارج، بل وهناك من اتهمه بالتخلي عن مبادئ ” قوى 14 آذار”. سكوت الحريري عن هذه القضية جاء في سياق صفقة عام 2016 مكنت ميشيل عون من أن يصبح رئيساً للجمهورية بدعم من حليفه حزب الله، فيما تولى الحريري للمرة الثانية رئاسة الوزراء.

“فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ” (26 يناير 2022) كتبت بهذا الصدد، معلقة على انسحاب الحريري “في أي مكان آخر، إعلان زعيم انسحابه من الحياة السياسية بعد فشله عدة مرات في تشكيل الحكومة، قد لا يشكل حدثاً يهيمن على التقارير الإعلامية. غير أن هذه البديهة لا تنطبق على النظام اللبناني، حيث المؤسسات شيء وهياكل السلطة غير الرسمية شيء آخر. فالدولة مجرد واجهة لكارتل من أمراء الحرب وزعماء العشائر والأوليغارشيه الذين يحكمون مثل اللوردات الإقطاعيين وفق المجموعات العرقية (والدينية) المختلفة: مسلمون شيعة وسنة ومسيحيون ودروز.

ضياع الثروة وخسارة الصداقة مع السعودية

ورث الحريري تحالف والده مع السعودية، وعرف في السنوات الأولى لمشواره السياسي بقربه الوثيق من القصر الملكي في الرياض، وكان يضع نزع سلاح حزب الله في مقدمة أجندته السياسية. كما اضطلع كزعيم للسنة بدور رائد في مواجهة حلفاء سوريا وإيران في لبنان وعلى رأسهم حزب الله. وهكذا قاد تحالف “قوى 14 آذار” المدعوم من الغرب والسعودية. الصراع مع حزب الله تحول لمواجهة عسكرية قصيرة تمكن خلالها الحزب من السيطرة الكاملة على بيروت.

تعتبر شركة “سعودي أوجيه” المملوكة للحريري ومقرها السعودية إحدى ركائز ثروة الحريري وإحدى مصادر التمويل الأساسية لنشاطه السياسي في لبنان. علاقة الحريري التي كانت شبه حميمية مع السعودية، تدهورت إلى الحضيض عام 2017، حينما انتشرت في العالم رواية تقول إن سعد الحريري تم احتجازه خلال زيارته للسعودية، حيث أجبر خلالها على الإعلان على استقالته. رواية تم نفيها رسمياً من الجانبين (السعودية والحريري)، غير أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي توسط حينه لحل الأزمة، أكد رواية احتجاز الحريري. فبعد تلك الوساطة تمكن الحريري من العودة إلى بيروت.

خطوة الحريري إقرار بسيطرة حزب الله على لبنان؟

شكل سعد الحريري أول حكومة ائتلافية له العام 2009، بعد فوزه بالأغلبية في الانتخابات التشريعية، حكومة أطيح بها عام 2011 في سياق احتقان سياسي ارتبط بمحكمة الحريري. بعدها غادر إلى الخارج حيث مكث فترة طويلة تزامناً مع انهيار الوضع في سوريا وارتداداته على لبنان. ورغم غيابه عن موقع لأحداث، عرف عن الحريري تصريحاته المنتقدة لدور حزب الله في القتال إلى جانب بشار الأسد.

وانسحاب الحريري الآن من الحياة السياسية ومن الاستحقاقات التشريعية المقبلة، لم يصاحبها حل لحزبه “تيار المستقبل”، وبالتالي قد يكون هذا الانسحاب مؤقتاً وقد يتم التراجع عنه إذا اختفت مسبباته. قرار الحريري يمكن اعتباره احتجاجاً أيضا على النخب السياسية الأخرى العاجزة عن حل مشاكل البلاد والتي انقلبت عليه أحيانا. فهناك من يرى أن “القوات اللبنانية” على سبيل المثال عملت على ضرب الحريري من الظهر رغم اعتماد ما أسماه بسياسة اليد الممدودة. ويرى كثير من المراقبين أن سيادة لبنان باتت أكثر من أي وقت مضى مرتهنة لإيران عبر حليفها حزب الله. وبهذا الشأن عبر وليد جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، عن موقف في هذا الاتجاه واعتبر أن قرار انسحاب الحريري “يعني إطلاق يد حزب الله والإيرانيين في لبنان”. الحريري نفسه قال في خطابه إن “لا مجال لأي فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والانقسام الوطني”.

ولكن هل يخدم انسحاب الحريري بالضرورة أجندة حزب الله؟ السياسة ليست علماً دقيقاً، وكل خطوة قد تولد خطوات غير متوقعة. قرار الحريري سيخلف فراغاً في مشهد محكوم دوماً بتوازنات المحاصصة الطائفية. فمن سيمثل المسلمين السنة؟ ليس واضحاً بعد، وما إذا كان تراجع الحريري مؤقتاً أم نهائياً. في الحالة الثانية فإن انسحابه قد يفتح البلاد أمام قيادة سنية جديدة قد ترضي السعودية الداعم التقليدي لسنة لبنان. قيادة قد تلعب دوراً أكثر صرامة في مواجهة إيران عبر حزب الله. وبالتالي فإن الأخير قد يكون أول المتضررين من هذا التحول. فالسعودية قد تدعم زعيماً سنياً قوياً يطرح على الأجندة اللبنانية تنفيذ القرار الدولي رقم 1559 الذي ينص صراحة على نزع سلاح حزب الله، وهو ما تفاداه الحريري لحد الآن.

حياة أو موت ـ. الخوف من تفكك لبنان

تعكس عائلة الحريري إلى حد بعيد الواقع اللبناني بكل تناقضاته، وعزوفها عن السياسة قد يكون مؤشراً إضافياً على تحول جوهري في المشهد اللبناني، في وقت تجتاز فيها البلاد إحدى أسوأ المراحل في تاريخها. وقد لعب الحريري دوراً رئيسياً منذ وفاة والده، حيث خاض معارك سياسية على عدة جبهات استعمل فيها سلاح المواجهة تارة وتسويات ومهادنة تارة أخرى، بل والابتعاد عن ساحة المعركة أحياناً. وفي خطاب الانسحاب/ العزوف قال الحريري إن “هذا كان سبب كل خطوة اتخذتها، كما كان سبب خسارتي لثروتي الشخصية وبعض صداقاتي الخارجية والكثير من تحالفاتي الوطنية وبعض الرفاق وحتى الإخوة.. هذه التسويات، التي أتت على حسابي، قد تكون السبب في عدم اكتمال النجاح للوصول لحياة أفضل للبنانيين. والتاريخ سيحكم”. فالحياة تحولت فعلاً لكثير من اللبنانيين إلى كوابيس لا تنتهي تتراوح بين الفقر والديون وفشل النخبة السياسية لدرجة أن الكثيرين يرون أن الوضع الحالي ربما يكون أسوأ حتى مما كان عليه إبان الحرب الأهلية التي دامت 15 عاما.

مشاهد الحياة اليومية للبنان توحي بآفاق لا تسعد القلوب، فمحلات المجوهرات والمصارف باتت تؤمّن بألواح من الصلب، فيما اكتسح الشوارع فقراء ومتسولون جدد، كانوا إلى وقت قريب منهمكين في عملهم وفي حياتهم الأسرية العادية. انهارت الطبقة الموسطى ودفع العوز بالكثيرين إلى حافة المجتمع. والأكثر من ذلك فإن قرار الحريري في هذه الظروف العصيبة التي تعيشها البلاد، ربما يكون مؤشراً على نهاية لبنان ما بعد الحرب الأهلية ونهاية لنظام قائم على محاصصة أنتجت نخبة سياسية ذات أفق ضيق لا يتجاوز الطائفة، وأغرقت البلاد في مستنقع لا ينتهي أفرز نظاماً اقتصادياً غير قابل للحياة وبات على وشك لانهيار. فهل يتفكك لبنان؟ كابوس بات للأسف أقرب للواقع أكثر من أي وقت مضى.

حسن زنيند

ينشر بالتعاون بين مؤسسة الكومبس الإعلامية وDW

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.