حرب أوكرانيا-حصيلة عام من تغيير ألمانيا لعقيدتها الدبلوماسية والدفاعية

: 3/3/23, 4:02 PM
Updated: 3/3/23, 6:32 PM
المستشار الألماني أولاف شولتس أمام البرلمان (بوندستاغ (الثاني من مارس 2023)
المستشار الألماني أولاف شولتس أمام البرلمان (بوندستاغ (الثاني من مارس 2023)

قبل عام، دفعت صدمةُ الغزو الروسي لأوكرانيا بألمانيا لتغيير ثوابت عقيدة سياستها الخارجية والدفاعية المعتمدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فما الذي تغير منذ ذلك الحين، وهل تمكنت برلين فعلا من تنفيذ أجندتها بهذا الشأن؟

أثار الغزو الروسي لأوكرانيا صدمة حقيقية في برلين وباقي العواصم الدولية. وجاء الرد الألماني، ومعه الغربي، كاسحا وغير متوقع في حجمه وأشكاله من خلال حزمة عقوبات اقتصادية ودبلوماسية وثقافية وحتى رياضية غير مسبوقة.

وأجمع متتبعو الشأن الألماني أن الأحد 27 فبراير/ شباط 2022 شكل بوضوح نقطة تحول جوهرية في سياسة ألمانيا الخارجية والأمنية، التي كانت معروفة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

وبهذه المناسبة، عرض المستشار أولاف شولتس أمام البرلمان الألماني (بوندستاغ) (الخميس الثاني من مارس / آذار 2023) حصيلة شاملة لأهم محطات هذا التغيير.

وكان شولتس أكد قبل عام من نفس المنبر، أن غزو روسيا لجارتها الأوكرانية، أجبر ألمانيا على الدخول في “حقبة جديدة”.

كلمات شولتس كانت في حينها مفاجئة للرأي العام الألماني، خصوصا وأن المستشار اتهم، منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية، بالتباطؤ وكبح كل المبادرات الغربية المتجهة لتشديد العقوبات ضد روسيا.

تهور الرئيس فلاديمير بوتين دفع ألمانيا لهذه الخطوة، وهي التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مثقلة بمشاعر الذنب بسبب مسؤوليتها عن فظائع حرب عانت من تداعياتها أوروبا والعالم. لكل هذه الاعتبارات تبنت ألمانيا عقيدة هادئة على الساحة الدولية تقوم على آليات الدبلوماسية لحل النزاعات.

موقع “ميركور. دي.إي” الألماني (الثاني من مارس/ آذار) كتب بهذا الصدد: “بعد عام كامل من الاعتداء الروسي على أوكرانيا، لا يزال المستشار شولتس لا يرى أي أفق لمفاوضات سلام”. واستطردت الصحيفة أن المستشار استبعد الخضوع لطلبات أولئك الذين دعوا لتقديم أوكرانيا لتنازلات. وقال شولتس إنّ “روسيا لا تزال تعول على نصر عسكري. ولكن هذا النصر لن يحدث، لأننا وشركاءنا سنواصل دعم أوكرانيا (..) لا يمكن التفاوض والسلاح موجه إليك (..) اذا توقفت أوكرانيا عن الدفاع عن نفسها فلن يكون السلام بل ستكون نهاية أوكرانيا”.

التزام بإنفاق دفاعي دائم وفقا لمعايير الناتو

قبل عام تعهد المستشار شولتس برصد استثمارات دفاعية قدرها مائة مليار يورو والعمل على تخصيص اثنين بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لصالح قطاع الدفاع خلال السنوات المقبلة، وهو السقف الأدنى الذي يفرضه حلف شمال الأطلسي (الناتو) على الدول الأعضاء، وهو ما لم تكن برلين تلتزم به في الماضي، وكان مصدر خلافات دائمة مع واشنطن، خصوصا خلال فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب.

وتعهد شولتس مجددا في بيانه الحكومي أمام البرلمان يوم الخميس بأن ألمانيا سوف تحقق بشكل دائم هدف حلف شمال الأطلسي من حيث الانفاق الدفاعي. وأوضح المستشار بهذا الصدد “التعهد الذي أعطيته هنا في 27 فبراير من العام الماضي، لا يزال ساريا”.

وفي نفس البيان تعهد المستشار بدعم إنتاج الصناعة الدفاعية الألمانية، بعدما حذر حلف الناتو من أن أوكرانيا تستخدم حاليا ذخيرة أكثر مما ينتجه أعضاء الحلف. وأكد أنه يجري محادثات مع مسؤولين في قطاع صناعة الأسلحة لزيادة إنتاج المعدات العسكرية لكل من الجيش الألماني والجيوش الأوروبية الأخرى. وقال بهذا الشأن “نحن نحتاج إلى إنتاج متواصل لأسلحة ومعدات وذخائر مهمة (…) بهذه الطريقة ستنشئ ألمانيا قاعدة صناعية من شأنها أن تساهم في ضمان السلام والحرية في أوروبا”. وبهذا الصدد كتبت صحيفة “فيرتشافتسفوخه” الاقتصادية الألمانية (الثاني من مارس/ آذار) عن وقع خطاب شولتس في “البوندستاغ” فقالت: “لا يستطيع المرء مقاومة الانطباع بأن الشخص (شولتس) يُقيم الحرب بارتياح. ليس بمعنى أنه كان يتحدث بشكل غير متعاطف وغير متأثر بالمعاناة والدمار والموت (..) ولكن إذا كان هذا الخطاب يمثل المقياس لكل الأشياء، فإن نقطة التحول ستكون حقًا، خطة منفذة بشكل لا تشوبها شائبة. بدون فواصل ولا شك بدون مخاوف وبدون أخطاء”.

توظيف النفوذ الصيني لتحقيق السلام؟

سبق للصين وأن أصدرت وثيقة، تزامنا مع ذكرى مرور عام على الغزو الروسي لأوكرانيا، تدعو فيها لهدنة بين طرفي النزاع، تمهيدا لإجراء مفاوضات. غير أن ردود الفعل في العواصم الغربية جاءت متشككة تجاه الوثيقة الصينية المكونة من 12 نقطة، لا تتضمن أية مبادرة جديدة، فضلا عن كون بيكين حليفة وثيقة لموسكو. وانتقد المستشار شولتس الصين أمام البوندستاغ وناشدها ممارسة ضغط على روسيا من أجل سحب قواتها من أوكرانيا. وقال “فلتستعملوا تأثيركم على موسكو من أجل الحث على سحب القوات الروسية. لا توردوا أسلحة للمعتدي الروسي”.

غير أن شولتس أشاد في الوقت ذاته بالرئيس الصيني حين عارض بشكل واضح “أي تهديد باستخدام أسلحة نووية أو استخدامها في الحرب الروسية ضد أوكرانيا”، إلا أن المستشار استطرد منتقدا بكين، التي امتنعت خلال الاجتماع الأخير لوزراء مالية دول مجموعة العشرين بالهند “لتأكيد ما كان هناك إجماع عليه خلال قمة المجموعة في العام الماضي في بالي، وهو: إدانة واضحة للهجوم الروسي”.

يذكر أن الاستخبارات المركزية الأمريكية سبق وأن أعربت عن اعتقادها بأن الصين لا تزال تدرس احتمال تزويد روسيا بالأسلحة. فيما حذرت الخارجية الأمريكية بيكين من عواقب خطة صينية لمساعدة حليفها الروسي في الحرب، منتقدة ازدواجية الموقف الصيني حيال النزاع.

برلين تُوسع دعمها العسكري لأوكرانيا

زادت شحنات الأسلحة الألمانية إلى أوكرانيا بشكل تدريجي خلال الاثني عشر شهرًا الماضية، حيث قدمت برلين مساعدات عسكرية لكييف بقيمة 2.6 مليار يورو. ولا تزال ألمانيا متأخرة مقارنة بمستوى الدعم الأمريكي، ولكنه دعم متواز تقريبا مع دعم بريطانيا الدولة المانحة الثانية في العالم لأوكرانيا. ووفقًا لبيات معهد كيل الألماني للاقتصاد الدولي، فإذا تم قياس المساعدة العسكرية التي تقدمها برلين لأوكرانيا من حيث القوة الاقتصادية، فإن ألمانيا تحتل المرتبة 18 فقط من بين 30 دولة في حلف الناتو، ذلك أن دول البلطيق الثلاث وبولندا على سبيل المثال تتقدم بفارق كبير على المساهمة الألمانية. ومن المتوقع أن يشهد قطاع صناعة الأسلحة قفزة كبيرة إلى الأمام بعد إعلان المستشار شولتس العام الماضي عن حزمة مائة مليار يورو لقطاع الدفاع.

وحتى الآن لم يتم استخدام سوى جزء صغير من هذه الأموال، ولم يتم تسجيل طلبات شراء دبابات أو مدفعية حتى مطلع عام 2023. ويرجع ذلك جزئيا إلى أن السنة السابقة كانت خاضعة في البداية لميزانية مؤقتة، ما جعل من الصعب منح عقود جديدة لشراء أسلحة.

وقد سبق وأن انتقد أندريه فوستنر، رئيس رابطة الجيش الألماني، الوضع الحالي للجيش الألماني. وقال في تصريح لصحيفة “بيلد أم زونتاغ” (26 فبراير/ شباط): “بالنسبة للجنود لم يتحسن الوضع بشكل ملموس حتى الآن (..) هناك حاجة لمزيد من السرعة، سواء في توفير مواد أو أفراد أو بنية تحتية، وهناك حاجة لتحول حقيقي وملموس في القوات خلال هذه الفترة التشريعية”. كما أوضح أن توريد معدات لأوكرانيا أدى إلى نشأة ثغرات أخرى. وتابع قائلا: “أشكك في إذا ما كان يمكننا الالتزام بتعهداتنا تجاه الناتو بدءا من عام 2025، إذا لم نسرع وتيرتنا؛ ألمانيا تعهدت بنحو 60 طائرة و20 سفينة و20 ألف جندي و7000 مركبة”.

ألمانيا في حاجة متزايدة لتحالفها مع واشنطن

بعد جلسته في البرلمان، غادر المستشار شولتس بلاده متوجها إلى واشنطن ليعقد اجتماعا منفردا مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، سيكون في طليعة جدول أعمالها العدوان الروسية على أوكرانيا. وليس من المزمع عقد مؤتمر صحفي مشترك بين الجانبين بعد اللقاء، كما لا يرافق شولتس صحفيون على متن رحلته من برلين، وهو أمر غير معتاد أيضا، وفق ما أفاد به مراقبون. ويذكر أن العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو شهدت تعقيدات بالغة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب.

وبهذا الصدد كتبت صحيفة “فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ” (الثاني من مارس/ آذار) منتقدة الإيقاع الذي تسير به إصلاحات المستشار وكتبت “ألمانيا غير قادرة حاليًا على الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم، كما اعترف بذلك وزير الدفاع بيستوريوس نفسه (..) وبالتالي، فإن ألمانيا تعتمد على الدعم الدفاعي الأمريكي أكثر من أي وقت مضى، منذ نهاية الحرب الباردة الأولى. ألمانيا وأوروبا الحرة بأكملها محظوظة للغاية لأن ترامب لم يعد جالسًا في البيت الأبيض، وإنما جاء مكانه رئيسٌ يدرك قيمة التحالف عبر الأطلسي”.

وماذا عن وضع اللاجئين الأوكرانيين؟

انتقدت صحيفة “أوغسبورغه ألغماينه” الألمانية (الثاني من مارس/ آذار) ما أسمته تقليل المستشار شولتس في خطابه من شأن تأثير تداعيات الحرب على المواطنين الألمان، خاصة بشأن اللاجئين الأوكرانيين. وكتبت بهذا الشأن معلقة: “بسبب الحرب في أوكرانيا، اكتظت ملاجئ اللاجئين في المدن الألمانية. من ناحية، هذا أمر لا مفر منه، بالطبع يجب على الرجال والنساء والأطفال أن يجدوا الأمان والمأوى هنا من فظائع الحرب. ومن ناحية أخرى، يختزل السكن كل المشاكل. البلديات استنفذت امكانياتها القصوى. في بعض الأحيان، يتعين على المستأجرين الانتقال من منازلهم لإفساح المجال للاجئين. يُوظف اليمين المتشدد هذه الوضعية لنشر خطاب الكراهية والدعاية المتطرفة. كلما طال أمد حرب أوكرانيا، جاء المزيد من اللاجئين. هناك خطر متزايد من أن يتغير المزاج”.

غير أن الحكومة الألمانية تبدو واعية بأهمية هذه المعضلة، حيث سبق وأن دعت على لسان وزيرة الداخلية نانسي فيزر إلى توزيع أكثر عدلا للاجئين القادمين من أوكرانيا بين باقي دول الاتحاد الأوروبي، مشيرة إلى أنه إذا استمرت الحرب التي بدأت قبل عام، فسوف يتعين مساعدة البلدان التي تستقبل الجزء الأكبر من اللاجئين.

واستقبلت بولندا حتى الآن أكثر من 1.5 مليون لاجئ من أوكرانيا. واستقبلت ألمانيا أكثر من مليون لاجئ من أوكرانيا، فيما لا يتعدى عدد اللاجئين الذين استقبلتهم إسبانيا على سبيل المثال 160 ألف أوكراني.

وتكررت الاحتجاجات في الأسابيع الأخيرة في عدد من الولايات الألمانية ضد إيواء اللاجئين كان بعضها عنيفا. وشهدت كذلك بعض الأوساط في ألمانيا نقاشا حول وجود لاجئين من “الدرجة الأولى” و”الدرجة الثانية” وذلك في ظل السماح للاجئين القادمين من أوكرانيا بالبقاء بشكل فوري بناء على توجيه من الاتحاد الأوروبي والحصول على إعانة الدخل الأساسي للمواطن بينما لا يُسْمَح بذلك للاجئين الآخرين.

حسن زنيند

ينشر بالتعاون بين مؤسسة الكومبس الإعلامية و DW

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.