الكومبس – خاص: في لحظة مصيرية، وجدت محافظة الرقة نفسها محط اهتمام إقليمي وعالمي. كان ذلك في حقبة هي الأصعب في تاريخها، فمن لم يكن يسمع بتلك المدينة النائية في شرق سوريا، تعرّف عليها خلال السنوات الأربع التي سيطر فيها تنظيم الدولة الإسلامية عليها بالكامل، معلنًا إياها عاصمة لخلافته الإسلامية.
في تشرين الأول عام 2017، دخلت قوات سوريا الديمقراطية إلى المدينة بدعم من قوات التحالف الدولي، وذلك بعد حرب ضروس دمرت المدينة بالكامل. خرج الآلاف من أبنائها، ومعهم نازحون من مدن أخرى كانوا قد احتموا بها سابقًا، ليعيشوا أوضاعًا إنسانية مزرية في مخيمات، بعضها كان منظمًا ويدار بشكل رسمي، بينما بقيت أخرى عشوائية حتى يومنا هذا.
قبل عامين، تم توحيد المخيمات النظامية في مخيم واحد لتسهيل دعمه والإشراف عليه، وهو مخيم المحمودلي. لكن كيف هو حال قاطنيه اليوم؟ مراسلنا في شمال شرق سوريا زار المخيم ورصد أوضاعه.
مخاوف توقف الدعم تؤرق سكان المخيم
على يمين الطريق الواصل بين مدينتي الرقة والطبقة، وعلى بُعد أربعة كيلومترات من الأخيرة، يقع مخيم المحمودلي. وقبل أن نصل إلى بوابته الرئيسية بمئات الأمتار، لفت انتباهنا أكوام من القمامة يتسلقها مجموعة من الأطفال، يجمعون بقايا طعام أو خردة. كما أثار استغرابنا مشهد نساء يقفن على جانبي الطريق بانتظار السيارات المارة، وعندما سألناهن عن وجهتهن، أجابت إحداهن: “نذهب كل صباح للبحث عن عمل، فالمعونات لا تكفينا حتى لأسبوع”.
داخل المخيم، تنتشر روائح كريهة ومشاهد إنسانية مؤلمة. يضم المخيم أكثر من 1,500 خيمة، بعضها ممزق بفعل العوامل الجوية، وقد بُني بشكل عشوائي وغير مدروس. وعند سؤالنا عن مصدر الروائح، قال لنا بعض السكان: “إنها مياه الصرف الصحي، حيث يضطر سكان المخيم للاستحمام داخل المخيم نفسه بسبب عدم توفر حمامات نظامية، مما يؤدي إلى انتشار الروائح الكريهة”.
يقول أحد سكان المخيم، وهو من مهجري مدينة تدمر:
“أعيش في هذا المكان منذ تأسيسه قبل ست سنوات. كانت الخدمات في البداية جيدة لكنها تراجعت كثيرًا. من لا يعمل لا يستطيع العيش، والاعتماد على المساعدات لم يعد يكفي. لقد أصبحت حصة الفرد من الخبز ثلاثة أرغفة يوميًا، كما تقلصت باقي المساعدات تدريجيًا.”
يقطن في المخيم نحو 11 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، ويتلقى المخيم دعمًا من عدة منظمات إنسانية، حيث تختص كل منظمة بقطاع معين. لكن مع قرار الرئيس الأميركي وقف المساعدات للمنظمات الإنسانية، بدأ سكان المخيم يشعرون بالخطر، خصوصًا بعد أن أعلنت منظمة “بلومونت”، التي توزع الخبز والسلل الغذائية وتوفر مياه الشرب، عن سحب كوادرها العاملة.
الأمن المنعدم وغياب الكهرباء
مع حلول الليل، يعاني سكان المخيم من تفشي عمليات السرقة، ويؤكدون أن نقطة الحراسة لا تتدخل أبدًا ولا تستجيب لأي نداء استغاثة خلال ساعات الليل. ويعزو السكان انتشار هذه الظاهرة إلى عدم توفر الكهرباء، إذ يغرق المخيم في ظلام دامس بعد غروب الشمس، حيث تفتقر معظم الخيام إلى مصابيح إنارة خارجية، مما يجعلها عرضة للسرقات.
النقطة الطبية.. “غائب حاضر”
اشتكى سكان المخيم من غياب أي دعم طبي، وأشاروا إلى أن النقطة الطبية الموجودة لا تضم أي طبيب، بل يقتصر عملها على ممرض يقدم بعض الأدوية في حالات معينة.
وقال أحد السكان: “طالبنا الهلال الأحمر الكردي، المسؤول عن القطاع الطبي في المخيم، أكثر من مرة بتوفير طبيب، لكنه لم يستجب لمطالبنا حتى الآن”.
مخاوف من إغلاق المخيم
أحد المشرفين على المخيم توقع أن يؤدي القرار الأميركي إلى إغلاق المخيم بالكامل، مؤكدًا أن بعض المنظمات بدأت بالفعل بتعليق أنشطتها، مثل منظمة “بلومونت”، مما سيترك سكان المخيم في وضع صعب. وأضاف أن هذا الأمر إما سيؤدي إلى ضغط إضافي على مدينة الطبقة، أو إلى انتشار الخيام العشوائية في أماكن أخرى.
أثر القرار الأميركي على شمال شرق سوريا
منذ عام 2017، وبعد دخول قوات سوريا الديمقراطية إلى المنطقة، حظيت شمال شرق سوريا باهتمام دول التحالف الدولي، حيث تم توجيه العديد من المنظمات للعمل فيها. وقد ساهمت هذه المنظمات عبر مشاريعها في إعادة استقرار السكان.
يؤكد أحمد الترن، المنسق الميداني في إحدى المنظمات الإنسانية، أن القرار الأميركي ستكون له تداعيات خطيرة، مشيرًا إلى أن منظمته تأثرت بشكل مباشر، حيث فقدت 40% من إجمالي تمويلاتها، مما أدى إلى تقليص عدد مشاريعها.
أبرز القطاعات المتضررة:
• الصحة: تسبّب وقف التمويل الأميركي في نقص حاد في الأدوية والمستلزمات الطبية، مما أدى إلى تقليص الخدمات الصحية، وإغلاق 15% من المراكز الصحية التي كانت المنظمة تديرها.
• التعليم: تم تقليص عدد المدارس المدعومة، مما أثر على أكثر من 20,000 طالب وطالبة كانوا يعتمدون على دعم المنظمة.
• الأمن الغذائي: أدى وقف التمويل إلى تدهور القدرة على تأمين الغذاء لأكثر من 30,000 شخص في شمال شرق وشمال غرب سوريا.
• سبل العيش: تقلصت برامج دعم فرص العمل بنحو 25%، مما زاد من معاناة الأفراد الذين كانوا يعتمدون على هذه البرامج للحصول على دخل مستدام.
• الحماية والتمكين: تضررت برامج حماية الأطفال والنساء في المخيمات بسبب توقف الدعم، مما زاد من تعرض الفئات الأكثر ضعفًا للمخاطر.
تحديات مستقبلية
أوضح أحمد الترن أن الأوضاع في المنطقة ستزداد سوءًا في ظل استمرار تراجع الدعم الإنساني، مشيرًا إلى أن 50% من الأنشطة الإنسانية في شمال شرق وشمال غرب سوريا شهدت تخفيضات أو توقفت بالكامل نتيجة القرار الأميركي.
وختم حديثه بقوله:
“قرارات وقف المساعدات الأميركية أثرت بعمق على عمل المنظمات الإنسانية، ونحاول جاهدين تأمين بدائل للحفاظ على المشاريع القائمة. إن استمرار التعاون مع المانحين الدوليين والمحليين والتكيف مع التحديات الجديدة سيكونان مفتاحًا لضمان استمرار المساعدات للسكان الذين يعتمدون عليها للبقاء على قيد الحياة”.
(مراسل الكومبس – شمال شرق سوريا)