كيف نستعيد كرة القدم من ملعب السياسة؟

: 11/30/22, 1:34 PM
Updated: 11/30/22, 1:34 PM
خاص
خاص

الكومبس – خاص: الإفراط غير الطبيعي، بتحميل لعبة كرة القدم كل هذا الكم الكبير من العواطف والحماس، ولتفريغ شحنات الشعوب الوطنية والعصبية، على مدرجات الملاعب وأمام شاشات التلفزيون، يضع إشارات استفهام كبيرة على ما تفعله العديد من الدول والحكومات وحتى الشركات من أجل تحويل هذه اللعبة إلى ملهاة، بل حتى إلى أفيون لتخدير شعوبها.
ردود فعل مثل هذه الشعوب على انتصاراتها وهزائمها في ميادين كرة القدم، يكاد يوازي أو يفوق انتصار أو سقوط جيوشها في ساحات المعارك. الفرق أن مدربي الفرق الرياضية هم من يدفعون ثمن الخسارة على الملعب، فيما تزيد النياشين والأوسمة على صدور قادة الجيوش وزعمائهم حتى بعد الهزائم في ساحات المعركة.

كرة القدم أصبحت الآن، وكأنها فسحة الأمل الوحيدة في ضيق عيش الشعوب، والاحتمال الوحيد للإصابة بالفرح، او تذوق طعم الانتصار، يقول أحد المشجعين الخائبين من هزيمة فريقه، في فيديو تتناقله وسائل الاتصالات، إنه استنفر والدته، ليلا ونهارا، من أجل الصلاة والدعاء لفريق بلاده بالفوز، ويضيف بأنه كان يبحث عن “الفرحة” لأن من حقه أن يفرح، ولأن من حق الشعب أن يفرح. الكرة، التي وضع آماله عليها، لم تأته بالفرحة، فالأفضل ألا يعيش، لأن كل شيء أسود وقاتم الآن، ولا يدعو إلا إلى الحزن والأسى، كما جاء بالفيديو.

من ناحية أخرى خلقت التهاني والتبريكات التي تبادلها العرب، فيما بينهم من مختلف الأقطار عند فوز الفريق السعودي على الأرجنتين، وعند فوز المغرب على بلجيكا، في مونديال قطر الحالي، حالة من التضامن العربي لم نشهد مثله حتى أيام حروب العرب مع أعدائهم، حالة وشعور رائع من التعاطف يتجاوز الخلافات السياسية والإقليمية القائمة والمستمرة بين الحكومات العربية
فيما شاهدنا تعليقات تناقلها العرب، فيما بينهم وهي تجلد الذات وتسخر وتألف النكات على هزائم بعض الفرق العربية المشاركة، ومع أن أغلبها لا يخلو من الظرافة، إلا أنها تعليقات تحمل الكثير من الألم والمرارة، وحتى الحنق على الواقع المرير، ليس فقط واقع الكرة العربية، بل لكل ما هو عربي.
ما الذي فعله الحكام بشعوبهم، لكي تقتصر فرحة الناس على مجرد الفوز بلعبة كرة قدم؟ ويصاب شعبا كاملا بخيبة الأمل لأن فريق بلاده خرج مهزوما من الملعب؟ بينما يصمت الجميع وكأنهم تحت تأثير المخدر عندما تنتهك مقدسات وتداس حقوق وكرامات وتسفك دماء بشكل يومي.

رفع سقف توقع الفوز، جعل السقوط مدوياً أكثر، في خيبات الأمل من مرارة الخسارة. ومع أن مجرد الوصول إلى المونديال واجتياز التصفيات هو إنجاز كبير، إلا أن العديد وبسبب المغالاة بتحميل هذه اللعبة أكثر مما تتحمل، نسوا أن هناك فريقا واحدا بالنهاية سيبقى ويأخذ الكأس، وأن هناك فرق كبيرة ستخرج من الدور الأول وهناك فرق كبيرة لم تتأهل أصلا. من كان يتوقع أن تستطيع السويد إزاحة إيطاليا وتحرمها من المشاركة والسفر إلى روسيا؟ ومن كان يتوقع أن الفرق الوطنية التي تضم أفضل نجوم العالم، مثل ميسي ورونالدو ونيمار، قدمت أداء دون المطلوب من بداية لعبها؟

هناك فرق كبير بين أن تخصص دولة ما لشعبها الموارد لدعم الرياضة في بلادها، وبناء المنشآت وتقوية المناهج الرياضية في المدارس والمعاهد، وبين إنفاق الأموال على تخدير الشعب من خلال الرياضة. في الحالة الأولى تنشأ أجيال تعرف الرياضة وتمارسها، وتتقبل الخسارة والربح ضمن قوانين التنافس وأخلاق اللعبة، أما في الحالة الثانية، فقد تنشأ أجيال لا تعرف من الرياضة إلا الهتاف والتعصب وحرق الأعصاب، بهذه الحالة أيضا، يستفيد الحاكم بإلهاء الشعب، خاصة الشباب، عن أولويات وقضايا أخرى.

معظم أبناء جيلنا، كانوا من مشجعي كرة القدم البرازيلية، ونحن أطفال وأيام التلفزيون الأبيض والأسود كنا بالكاد نميز وجوه اللاعبين من أرقام وألوان سراويلهم وقمصانهم، كان المعلق الرياضي ينبهنا دائما أن الفريق بالملابس الفاتحة هو الفريق الفلاني والفريق بالملابس الغامقة الفريق المنافس للفلاني، وكان المعلق يذكرنا أيضاً بأن الفريق الفلاني يلعب على يمين الشاشة، مثلاً، بينما المنافس له يلعب على يسارها.
قبل أن تنشأ الأندية وتتطور، كان الاهتمام ينحصر بالمنتخبات، لكن رجال الأعمال والسياسيين أدركوا أن كرة القدم أكثر من مجرد رياضة ممتعة، يمكن أن تشاهد فيها كرة تتنقل بين أرجل 22 لاعب على مدار 90 دقيقة.
تطورت رياضة كرة القدم على أرجل لاعبي الأندية، وظهر ما يمكن اعتباره صناعة مزدهرة تسمى “كرة القدم” وأصبح للاعبين وللأندية بورصات أسعار، وماركات مسجلة وأسواق إعلانات ضخمة، وحقوق بث ونقل، عبر قنوات وشبكات وأقمار صناعية.
ازدهار لعبة كرة القدم، وبعد تطور تقنيات الاتصالات ووسائل التواصل بين البشر، وضع هذه اللعبة في مضمار العولمة، وتنامت ظاهرة شراء الأندية خاصة الأوروبية منها، واحتكار الإعلانات على قمصان اللاعبين وسراويلهم، للترويج للدول أو للشركات الضخمة، ضمن خطط العلاقات العامة. وأصبحت عملية صناعة مشاهير الكرة، ضرورة حتمية لتلبية ميول المستهلكين واللعب على عواطفهم.
تحرير الرياضة من المؤثرات السياسية والتجارية، قد يكون أمرا صعبا، فالحكومة البريطانية أرادت معاقبة روسيا على قضية محاولة اغتيال الجاسوس المزدوج، وقررت عدم المشاركة الحكومية بالحضور لمشاهدة مونديال 2018، دول أوروبية عديدة وقفت إلى جانب بريطانيا وفعلت نفس الشيء، ومنها السويد، حيث لا يوجد أي مسؤول حكومي ضمن الجمهور السويدي في روسيا. فيما شهدت مونديال قطر الحالي 2022 انتقادات من الحكومات الأوروبية تتعلق بحق العمال وبمنع الكحول وحظر الإشارات المثلية الجنسية، انتقادات كادت المغالاة فيها أن تؤثر على نجاح تنظيم المونديال، أو كأنها أداة تفشيل لأول دولة عربية وشرق أوسطية تنظم المونديال الكروي.

يقال إن الشعوب ستصبح مثل قطعان الماشية، بسبب تأثير الإعلام القوي عليها، ومن يسيطر على وسائل الإعلام يسيطر على العالم، والخوف من أن هؤلاء المسيطرين هم من يقرر أن الشعوب يجب أن تبكي أو تفرح حسب نتائج لعبة ما من ألعاب كرة القدم، وهم من يقرر صمت هذه الشعوب وسكوتها، بل وتخاذلها أمام قضايا أكثر أهمية من مجرد لعبة كرة قدم.

جميل أن نستمتع بمشاهدة مباراة بين فرقين متنافسين، والأجمل أن يفوز الفريق الذي نشجعه، والأكثر جمالاً عندما يحقق لاعب مفضل نحبه هدف الفوز باللحظة الأخيرة. ولكن الأجمل من كل ذلك أن نشعر أيضا أننا لاعبين جديرين في لعبة أكبر بكثير من مباراة كرة، وأننا نستطيع الدفاع والهجوم، بل وتسجيل الأهداف.

محمود آغا

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.