المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – رأي: تشهد السويد حالياً حراكاً فكرياً قوياً واستقطاباً حاداً، ليس فقط بفعل صعود الشعبوية السياسية والخطاب العنصري محلياً إنما كذلك بفعل تأثير الأحداث العالمية وصداها السياسي والثقافي في السويد. في هذا السياق يبرز ميدان الثقافة كأحد أسخن الميادين في هذا الحراك. إن المحور المركزي الذي ينشط فيه المهتمون هذه الأيام هو الدفاع عن الدستور والقيم العريقة للديمقراطية السويدية كحرية التعبير وحرية الرأي والمساواة في الحقوق للجميع. فهذه القيم، التي ظلت السويد لعقود طويلة تفتخر بها، تجري اليوم محاولات حثيثة للتراجع عنها.
مؤخراً صدم الوسط الثقافي في السويد بحدث بدا لكثيرين غريباً على أجواء حرية التعبير التي تميزت بها البلاد لعدة عقود، وهو إنهاء عمل مديرتي برنامج أدبي بسبب رأيهما السياسي. كانت الكاتبتان إيدا لينده وأثينا فروخزاد قد أدارتا بنجاح ولفترة طويلة برنامج “منصة الأدباء العالمية” الذي تنتجه “دار الثقافة” في ستوكهولم، وفكرته هي استضافة أدباء من أنحاء العالم الى محادثة أمام الجمهور مع كاتب سويدي. لكن عملهما الثقافي لم يشغلهما عن مشاركة الآلاف من المواطنين في حملة الاحتجاج ضد الإبادة التي تعرض لها الفلسطينيون في غزة. المفاجأة هي أن هذه المشاركة، التي قامتا بها بصفتهما الشخصية، كانت سبباً – حسبما أعلنت الكاتبتان – لإيقافهما من مواصلة عملهما في البرنامج. وثمة أسباب وجيهة تجعل هذا الحدث صادماً.
أول الأسباب أن نشاط الكاتبتين السياسي جاء خارج عملهما، ولم تستخدما البرنامج الذي تديرانه في الدعاية لرأيهما، إنه شأن شخصي بحت. وثاني الأسباب هو أن موقفهما الأخير ليس موجهاً ضد الحكومة السويدية أصلاً وإنما ضد دولة أخرى. أما السبب الثالث فهو أن هذه الدولة الأخرى هي إسرائيل فهل أن انتقاد إسرائيل دوناً عن بقية الدول أصبح خطاً أحمر بحيث يكلف المواطن وظيفته؟ إنها، على حد تعبير مجموعة من الأدباء، درجة مبالغ فيها من “الرقابة على الآراء”، وذلك في البيان الذي نشره هؤلاء الأدباء في الصحافة تضامناً مع الكاتبتين ودفاعاً عن حرية التعبير وللدعوة الى رجوع دار الثقافة عن قرارها.
الدستور يحمي حق أي إنسان في التعبير عن موقف سياسي بشكل شخصي طالما لا يخلط بين هذا الموقف ووظيفته العامة، هذا مبدأ ممتاز في الديمقراطية السويدية، والملاحظ في هذه القضية أن الكاتبتين قد التزمتا بأمانة بهذا المبدأ وأن من خرج عليه هو الإدارة الحكومية. كانت هذه النقطة هي التي أثارت قلق الأدباء إذ جاء في بيانهم المشترك أن مهمة “دار الثقافة” هي الدفاع عن القيم الديمقراطية لكن الدار بدلاً من ذلك جعلت آراء الأشخاص تحت الرقابة بل وقد تكلفهم فقدان وظيفتهم.
الضجة التي أثارها الحدث في الصحافة والأوساط الثقافية وضعت “دار الثقافة” في موقف محرج، خصوصاً بعد ظهور حملة إلكترونية للدفاع عن حرية التعبير والمطالبة برد الاعتبار للكاتبتين، جمعت حتى الآن مئات التواقيع.
سابقة في السويد
ثمة قضية جدية تكمن وراء السطور في هذه القصة، وهي أن المسؤولين في الإدارة الثقافية، المعينين من قبل الحكومة، يتخذون القرارات ويعينون أو يقصون العاملين في قطاع الثقافة وفقاً لمصلحة الحكومة وأحزابها. وهذه سابقة، فالمفروض في دولة المؤسسات أن تمنح حقوق العاملين والمتعاقدين والمستثمرين في هذا القطاع وفق مبادئ المساواة والمهنية بصرف النظر عن آرائهم السياسية. فقط في فترة الحكم الحالية صرنا نسمع بحالات من التصرف بحقوق المساهمين في قطاع الثقافة تبعاً لرضى الحكومة عنهم أو عدمه، مثل ما حصل مع موقع Magasinet Konkret في ديسمبر الماضي عندما قرر المجلس الثقافي Kulturrådet حرمانه من الدعم. كان هذا الرفض مفاجئاً لهيئة تحرير الموقع لأن الدعم حق قانوني وليس هِبة من تحالف “تيدو” الحاكم. لكن ليس من الصعب تخمين السبب الكامن وراء الرفض فهذا الموقع يأخذ على عاتقه نقد وسائل الإعلام والتحقيق في مصادر الأخبار الرسمية وإبراز الحقائق وهو معروف كذلك بالسخرية السياسية، وهذه كلها تتطلب جواً من حرية التعبير، المبدأ الذي صار البعض في الحكومة يضيق به.
في افتتاحيته الناقدة لقرار الرفض لمّح الموقع الى أن تقديم المنحة لأناس وحجبها عن آخرين ربما له علاقة بالتقرب من بعض المسؤولين! وذكر في الافتتاحية جملة بليغة نختتم بها هنا:
“إنها أوقات “تيدو” العصيبة”.
سمير طاهر
كاتب عراقي مقيم في السويد