المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – رأي: في العام 1994، شهدت رواندا واحدة من أحلك اللحظات في التاريخ البشري. ففي غضون 100 يوم فقط، فقد ما يقارب المليون شخص حياتهم في الإبادة الجماعية ضد التوتسي. وهي مأساة جرحت روح الأمة بعمق. وبينما تحتفظ قلوب الروانديين ومن يقف إلى جانبهم بالحقيقة الكاملة لهذه الجريمة، لا يزال البعض يواجه صعوبة في الاعتراف الكامل بواقعها المؤلم. تمزقت العائلات، وتحطمت المجتمعات، وتوارثت الأجيال الحزن. ومع ذلك، ومن أعماق هذا الألم، أظهرت رواندا طريقاً استثنائية من الصمود: قوة الوحدة، وعظمة الغفران، والوعد الدائم بالشفاء.

لم تكن الأحداث المأسوية التي وقعت في رواندا نتيجة مفاجئة للحظة واحدة، بل كانت ثمرة تآكل طويل الأمد للوحدة، جذوره تعود إلى هياكل الانقسام التي شُكِّلت بفعل التأثير الاستعماري، والتي سعت إلى التفريق بدلاً من التوحيد. على مدى الزمن، فُرضت تمييزات مصطنعة على شعب عاش طويلاً كمجتمع واحد. ومع تعاقب الأجيال، ضعفت روابط الثقة والأخوّة. وعندما حلّ الظلام، تمزقت حتى أقرب العلاقات بين الأقارب، وزملاء الدراسة، وزملاء العمل، والجيران. ومع ذلك، وسط هذا الألم العميق، لا يزال الأمل في المصالحة والشفاء وإيقاظ روح الوحدة قائماً، ينتظر أن يُستدعى بأفعال الشجاعة، والعدالة، والمحبة.

لكن قصة رواندا لا تنتهي بالدمار. طُلب من الناجين أن يغفروا لأولئك الذين ألحقوا بهم الأذى الأكبر. وعملت المجتمعات سوياً لإعادة بناء السلام. أما الأطفال الذين وُلدوا بعد الإبادة، فقد نشؤوا وهم يتعلمون عن الماضي، وفي ذات الوقت يدركون أهمية اختيار الوحدة بدلاً من الانقسام.

وتحمل روح إعادة البناء هذه درساً أعمق للعالم. فالسلام الحقيقي لا يولد من الصمت أو النسيان. بل ينمو من الفهم، والقيادة، والحكم الرشيد، والعدالة، والرحمة. وعندما يعترف الناس ببعضهم البعض كأعضاء في أسرة إنسانية واحدة، يبدأ الشفاء. يمكن لروح الأمة أن تنهض، مهما كانت الجراح عميقة.

خلال فترة عملنا وإقامتنا في رواندا، أتيحت لنا الفرصة لأن نعمل جنباً إلى جنب مع زملاء مميزين من وزارة الصحة الرواندية، وجامعة رواندا، وكلية الطب بجامعة هارفارد، ومنظمة الشركاء في الصحة. شهدنا معاً كيف أصبحت رواندا نموذجاً يحتذى به في مجال الصحة العامة. فرغم التحديات كونها بلداً منخفض الدخل، فإن المؤشرات الصحية قد تحسنت بشكل ملحوظ. ولم يكن المال هو ما قاد هذا التحول، بل القيادة المتجذّرة في الوحدة، والرؤية، والالتزام العميق بخدمة الناس بكرامة.

أُعيد بناء المستشفيات والمراكز الصحية، لا بالطوب فقط، بل بالتعاطف أيضاً. ويلعب العاملون الصحيون المجتمعيون، المدربون، والموثوقون، والممكّنون، دوراً حيوياً في الوصول إلى حتى أكثر العائلات بعداً. وأصبح النظام الصحي يتمحور حول الإنسان، ما يضمن أن تكون الخدمات متاحة ومحترمة وفعالة. يمكن للأمهات الآن أن يلدن بأمان. ويتلقى الأطفال اللقاحات المنقذة للحياة. ويحصل الأشخاص المصابون بفيروس نقص المناعة البشرية والأمراض المزمنة الأخرى على العلاج، ويعيشون حياة طويلة ومليئة بالمعنى.

لقد كانت هذه الإنجازات ثمرة شراكات حقيقية بين الروانديين وأصدقائهم حول العالم، وبين المؤسسات العامة والمجتمعات، وبين القلوب المتحدة في السعي نحو العدالة والرفاه. لم تعد الصحة العامة في رواندا مجرد نظام، بل أصبحت تعبيراً عن المسؤولية المشتركة، والتعاطف، والكرامة.

وفي المساء، بعد أيام طويلة من الخدمة، كنا غالباً ما نجتمع من أجل لحظات من الصلاة والتأمل. جلس المسيحيون، والمسلمون، وأتباع ديانات توحيدية أخرى جنباً إلى جنب، لا في جدال، بل في عبادة. صلينا من أجل حاجات المجتمع، ومن أجل الشفاء والقوة، ومن أجل وحدة الإنسانية. وكانت تلك اللحظات الهادئة تذكرنا بأن التحول الحقيقي يبدأ من القلب، وينمو بالتواضع، والأمل، والمحبة.

أمر ممكن رغم كل شيء

تُظهر رواندا أن مستقبلاً مشتركاً أمر ممكن، مستقبل لا يُبنى على الانتقام، بل على الحقيقة، والمصالحة، والسعي إلى الخير العام. وينشأ الشباب في رواندا اليوم برؤية جديدة: أن قوتهم تكمن في رفع الآخرين. وهم يختارون ألا يُعرفوا فقط بألم الماضي، بل برؤيتهم لمستقبل عادل وموحّد.

الكرامة الإنسانية لا تعتمد على الخلفية أو التاريخ، فهي تضيء في كل روح. وفي تلال رواندا، لم تخبُ تلك الأنوار أبداً. فهي تعيش في الطواقم الطبية التي تعتني بمرضاها برحمة، وفي كل عامل يبذل قصارى جهده لخدمة مجتمعه، وفي الشباب الذين يجرؤون على الحلم بأن يصبحوا ما يشاؤون – ويسعون إلى تحقيق تلك الأحلام عندما تأتي الفرصة. وهي باقية في الصلوات الصامتة لمن يتذكرون أحبّاءهم بالدموع والقوة.

إن الطريق الذي سلكته رواندا لم تكن سهلة، لكنها طريق شريفة. إنه مسار يُعلّم العالم أن الشفاء ممكن، وأن الوحدة ليست حلماً، وأن حتى الأماكن الأكثر ألماً يمكن أن تنبت فيها حدائق من السلام ومن الصحة.

د. زياد الخطيب

د. كريستين موتاغانزوا