المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

ميرفت: الاتصال الذي أوقعني أرضاً

“الكومبس – رأي: كانت الساعة الواحدة وثلاثة عشر دقيقة ظهراً، شعوري لا يوصف ولا يجاريه شعور آخر، القلق، الاضطراب النفسي، حجم الكارثة الداخلية والهلع لحظة تلقيت الهاتف الأول من ابنتي ماريا ذات الستة عشر عاما ً عندما فتح المجرم النار. الواحدة وعشرون دقيقة اتصالٌ آخر بصوت مرتجف يغمره الصراخ والبكاء أوقعني أرضاً؛ (أمي.. إطلاق النار لا يزال مستمراً..). طلاب في الصف عددهم إثنا عشر طالباً، بين الستة عشر والسبعة عشر عاماً، وقفوا جميعاً على مقصلة الموت بانتظار المجهول. لا تزال ابنتي تعاني الصدمة ذاتها لغاية اليوم. جثث كانت طريحة الأرض، دماء تملأ المكان، أصوات الإنذار في كل اتجاه”. تقول ميرفت إحدى قاطني مدينة أوربرو حيث كانت ابنتها تدرس في ذات المدرسة التي شهدت المجزرة.

ثلاثاء أسود

لم يمر ثلاثاء الرابع من فبراير برداً وسلاماً على السويد. حادثة ليست كمثلها حادثة، الثلاثاء الشتوي القاتم بتاريخ البلاد المعاصر “والأفظع المتصور حدوثه قد حدث”، على حد وصف رئيس الحكومة السويدية أولف كريسترشون. عملية إطلاق النار الجماعي في مدرسة لتعليم الكبار في المدينة الواقعة وسط البلاد، الحادثة التي شكلت مادة خبرية دسمة للإعلام العالمي ألقت بظلالها أيضاً على المجتمع السويدي برمته، ومنه بطبيعة الحال المكون من خلفيات اجنبية تاركةً انعكاسات سلبية جمّة على الجانبين النفسي والاجتماعي.

حاورنا عدداً من المهاجرين من مختلف أرجاء السويد واستطلعنا آرائهم حول تأثيرات الجريمة، التي لم تجف دماء ضحاياها لغاية تاريخه بعد، كما لم تغلق الشرطة السويدية باب التحقيقات فيها بانتظار البت في طبيعة الدافع وراء الفعل الجرمي.

أمان مفقود !

تقول ميرفت التي مضى على قدومها للسويد سنوات كثيرة؛ “مادفعني للوصول لهذا البلد هو عامل الأمان. أن نكون جزءاً من هذا المجتمع نتكاتف مع السويديين أبناء البلد معاً يداً بيد نعمل. لكن أن نعيش الواقع المرير هذا، هنا في السويد! دولة الأمن والأمان! للأسف كل ذلك فُقدْ. أجلس الآن وأفكر بيني وبين نفسي ماهو الغد الذي ينتظر أبنائي، أحفادي…”. ميرفت تحمّل المسؤولية عما حصل “للحكومة التي تسلمت زمام الحكم في السنوات الأخيرة”، وتتهمها ب”زرع الحقد المقيت في قلوب الناس” على حد وصفها.

ظننته يشاهد فلماً!

رجفة غريبة بدت على صوت نوار من قاطني مدينة أوربرو وهي تحاول استنهاض ما تذكره عن يوم “الهلع الأكبر” كما تصفه، حيث كانت وقتها للتو عائدة من عملها. تصمت نوار لبرهة ثمّ وبعد شهيقٍ عميق تتابع الحديث وتسرد بألم: “كان يوماً قاتماً، بين الساعة الواحدة والربع والواحدة والنصف ظهراً، تلقيت اتصالاً من ابني البالغ عمره إحدى عشر عاماً من المدرسة:(ماما تعالي خديني). حالة هلع، حاولت الهرع باتجاهه لكن كان علي أن اتصل بباقي أولادي. كنت أضنه يشاهد فلماً!”. وتؤكّد نوار أن الحادثة الدموية خلّفت “خزناً وتشتتاً وألماً نفسياً، قلقاً، وتعباً على كل الأصعدة”، مشدّدةً على أن حالة الخوف تنتاب الجميع حالياً: “لم نعد نعرف شيء، من المستهدف التالي، أية مدرسة ستكون!، لم يعد لدينا ثقة في شيء على الإطلاق!”.

مسؤولية يتحملها الإعلام

نوار تحمّل المسؤولية الأكبر في مواجهة تصاعد نبرة الكره والكراهية والعنصرية في المجتمع للإعلام. وتتابع؛ “بلاشك أساس تصاعد نبرة الكره والكراهية والعنصرية في المجتمع هو الإعلام بالمقام الأول. على الإعلام أن ينقل صورة جيدة عن المهاجرين. أنا متأكدة أن الصورة الحقيقية غير تلك التي يتم تناقلها عبر بعض وسائل الإعلام السويدية ككل، تعمّد تضخيم وتصدير صورة سلبية عن الأشخاص من أصول أجنبية ينعكس كلياً على المجتمع ككل”.

وعلى خلاف ذلك، تثمّن فداء بدورها وهي من سكان مدينة سفيدالا دور الإعلام المركزي في تقريب وجهات النظر “إذا أُحسن استعماله كوسيلة”، وتتابع: ” قسم من الإعلام العامل في السويد قام بترسيخ صورة نمطية عن المهاجرين وتشديدها للمجتمع بمرحلة من المراحل واصفاً اياهم بأنهم أشخاص عاطلين عن العمل ومصدر للإشكالات الاجتماعية والأمنية”، الأمر الذي ساهم على حد وصفها في “تأجيج خطاب الكراهية” ودفعه للواجهة. مواجهة الأزمة يتطلب من جهة أخرى كما ترى فداء، دوراً أبرزاً لقوات الشرطة التي لم يكن دورها كما المطلوب في إدارة ملف الجريمة حيث “تأخر وصولها للمكان وفقاً للتلفزيون السويدي خمسين دقيقة الأمر الذي قد يكون فسح المجال أمام الجاني لإمكانية إصابة أكبر عدد من الضحايا. تطلعاتنا للمستقبل أن تكون الشرطة مدربة أكثر على مثل هكذا عمليات”.

الصدمة وآثار ما بعد الصدمة

انعكاسات جريمة أوربرو اجتاحت السويد من أدناها إلى أقصاها…ياسمين وهي ناشطة اجتماعية من مدينة ايسلوف تقول إنها لازالت بعد معايشة الصدمة الأولى تعيش آثار ما بعدها وما خلفته الفاجعة. وتتابع قائلة: “بقيت بعد المجزرة لبرهة من الزمن أتساءل في نفسي؛ هل من المعقول، مجزرة بهذا الحجم في السويد بلد الإنسانية والرحمة، بلد العدل والتسامح واحترام الكل، تلاه شعور الخذلان، وما أقصده هنا عندما تضع كل أمالك في شيء وترتد عليك الخيبة. في ذات يوم كانت السويد معروفة بكونها بلد الإنسانية. هكذا كنت أسمع عنها قبل القدوم إليها كلاجئة حصة وفق توزيع الأمم المتحدة طرح أمامي خيارين السويد أو بريطانيا، وتمنيت في حينها أن تكون وجهتي السويد وعندنا سألوني عن السبب أجبتهم لكونها بلد الإنسانية والمكان الأفضل لمستقبل أطفالي. وتستطرد: “ما حصل مؤخراً ولد عندي شعوراً معاكساً، شعور الخوف على أطفالي. ما حصل غير كل مفاهيمي السابقة”.

ياسمين ترى أن الأزمة الحالية يمكن مواجهتها فقط بالحد من “خطاب الكراهية، وضع قوانين صارمة في هذا الصدد ومراقبة وسائل التواصل الاجتماعي وأي تصريح من شأنه أن يحرض على الكراهية والعنف اللذان قد يولّدان جرائماً تجاه المهاجرين، وأيضاً ضرورة تكاتف الجميع في مواجهة هذه المعضلة”. “فشل الحكومة” في تحقيق ما وعدت الناخبين به على كافة الصعد دفعها إلى استعمال المهاجرين كـ”شمّاعة” على حد وصف ياسمين.

كطبيب مقيم في أوربرو أيضاً يشاطر محمد الظاهر، الرأي نفسه ويقول: “جريمة أوربرو أثرت في نفسيتنا جميعاً. هكذا جرائم تفقدنا الثقة وشعور الأمان وتشعرنا أننا لا قيمة لنا في هذا البلد”. محمد يعزو الأسباب إلى “خطاب الكراهية المتزايد من بعض الأحزاب السويدية التي لا شغل لها إلا انتقاد المواطنين من أصول مهاجرة وتحميلهم كل شيء سلبي يحصل في هذا البلد”. داعياً إلى سن قوانين من شأنها الحد من نشر خطابات الكراهية والعنصرية تحت طائلة المسؤولية.


المجتمع المدني يقول كلمته

أحمد، ناشط ومؤثر في السويد يصف ما حصل بأنه “وضع مزري” ويتابع: “الآن أصبحت أتلفّت يميناً ويساراً كلما خرجت من البيت، وأصبح ينتابني توتر مفاجئ عندما ارى شخص يحمل شنطة امامي”. أحمد المؤثر الاجتماعي باسم “شوفونا” مع ناشطين في مجال القانون والمجتمع المدني في السويد كانوا قد أطلقوا مؤخراً حملة على مواقع التواصل الإجتماعي اسموها: vi är lika värda, وتعني أننا متساوون في القيمة. يدعو مع حملته إلى “وضع حد فوري ومواجهة حازمة وجازمة للأحزاب اليمينية التي هي سبب خراب البلد كمحاسبتهم ومحاسبة كل شخص آخر يمارس نهج التحريض والكراهية ومعاقبته حسب مقتضيات القانون” على حد قوله. ويتابع: “هدفنا من الحملة التي أطلقناها مؤخراً الدعوة إلى توقيع عريضة إلكترونية تطالب الحكومة بنبذ خطاب الكره والكراهية والعنف والعنصرية وهو ما يشكّل بيئة خصبة لنمو التطرف بشتى أنواعه”.
وفي ذات اتجاه أحمد تذهب الناشطة في مجال المجتمع المدني داليا بربخ من مدينة كالمار التي ترى في ما حصل عاملاً لتوليد شعور عدم الأمان وما يتوالى عنه من مشاعر الحزن والغضب والخوف، وتضيف: “أتمنى ألا يتكرر مثل هكذا تصرف إجرامي دموي”.

وبين الأمل في سويدٍ أفضل والثقل، الذي خلّفه ثلاثاء الرابع من فبراير على البلاد، يبقى الجميع مترقباً سير التحقيقات التي يقودها جهاز الشرطة السويدية بانتظار البت في خلفيات الجريمة التي عصفت بالبلاد ووضعتها على صفيحٍ ساخنٍ قبيل فترة ليست بالطويلة على الانتخابات البرلمانية.

أسامة الماضي