المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الخبير العراقي فاروق القاسم… العلامة الفارقة في تاريخ النرويج الحديث
الكومبس – رأي: طائرٌ جنوبي فذّ، حلق فوق سماء النرويج ثم غاص في أعماق خزائنها النفطية، متتبعًا بفراسته العلمية احتياطات الذهب الأسود، ليساهم في تحويل اقتصادها من اقتصاد قائم على الزراعة والصيد إلى واحد من أقوى الاقتصادات النفطية في العالم.
يحق لنا أن نفخر بكامل عراقيّتنا حين نذكر اسم الخبير والمهندس فاروق القاسم، المعروف في النرويج بـ”عين الصقر”، نظرًا لذكائه الحاد وخبرته الواسعة.
لقد واجه القاسم التحديات التي شكلتها عمليات التنقيب البحرية المعقدة، واستطاع من خلال علمه وخبرته أن يحول تلك التحديات إلى إنتاج نفطي ضخم، أشرف عليه بنفسه، ليصبح أحد الأعمدة الرئيسية في نهضة قطاع النفط النرويجي.
النشأة والمسيرة الأكاديمية
وُلد فاروق عبد العزيز القاسم عام 1936 في البصرة، وسط أسرة عراقية عريقة. كان جده ملاحًا ماهرًا، بينما كان والده مربيًا فاضلًا كرّس جهوده لرعاية الأيتام، حيث عمل مديرًا لإدارة مبرّة البهجة في البصرة.
شدّ القاسم الرحال إلى بريطانيا عام 1952 لمواصلة دراسته العليا على نفقة شركة نفط العراق، فالتحق بـالكلية الإمبراطورية في لندن وتخرج فيها عام 1957 ضمن الدفعة الأولى لقسم الجيولوجيا. بعد عودته، عمل في إدارة الحقول بشركة نفط البصرة في البرجسية، لكنه اضطر لمغادرة العراق عام 1968 متوجهًا إلى النرويج برفقة زوجته سولفرد وأولاده فريد، نادية، ورائد، الذي كان يعاني من الشلل الدماغي، ما دفعه للبحث عن أحدث العلاجات في المستشفيات النرويجية.


الانتقال إلى النرويج وبداية المسيرة النفطية
عندما وصل إلى أوسلو في أواخر الستينيات، وبينما كان ينتظر القطار، لمح وزارة الصناعة النرويجية، فتوجه مباشرة إليها، وقدّم نفسه كمهندس نفطي جيولوجي. لم يكن يدرك حينها أن هذه الخطوة ستغير مستقبل قطاع النفط النرويجي بالكامل!
فوجئ المسؤولون النرويجيون بمستوى خبرته وندرة تخصصه، وحددوا له موعدًا لمقابلته. بعد اللقاء، وصفوه بأنه “هبة علمية من السماء”، وتم التعاقد معه كمستشار نفطي لمدة ثلاثة أشهر، استمرت لاحقًا لعقود. في أبريل 1973، بدأ العمل في مديرية النفط النرويجية بمدينة ستافنجر، حيث كان الاعتقاد السائد آنذاك أن نسبة استخراج النفط من المكامن البحرية لا تتجاوز 17%، ما كان سيؤدي إلى نضوب الحقول بسرعة، لكن بفضل تقنياته الحديثة، استمر الإنتاج لعقود، ومن المتوقع أن تبقى الحقول النرويجية منتجة لخمسين سنة قادمة.

تحوّل الاقتصاد النرويجي بفضل رؤية القاسم
في تلك الفترة، كان الاقتصاد النرويجي يعتمد بشكل أساسي على الزراعة، منتجات الألبان، والصيد، لكن عمليات الحفر والتنقيب أثبتت وجود احتياطيات نفطية هائلة في المسطحات البحرية النرويجية، مما غيّر توجهات البلاد بالكامل.
تولى فاروق القاسم قيادة عمليات التنقيب والإنتاج، كما لعب دورًا محوريًا في وضع التشريعات النفطية ورسم سياسات التفاوض مع الشركات الكبرى. ومن أبرز إنجازاته:
وضع أسس صندوق الثروة السيادية النرويجي عام 1996، الذي يدير اليوم تريليونات الدولارات.
تأسيس شركة “ستات أويل” (Statoil)، وهي شركة النفط الوطنية النرويجية، التي تضمن لكل مواطن نرويجي نصيبًا من عائدات النفط.
أوسمة وشهادات تقدير
بسبب إسهاماته الجليلة، حصل فاروق القاسم على وسام الفروسية من الدرجة الأولى من ملك النرويج هارالد الخامس. كما أُطلق عليه لقب “أمير النفط النرويجي”، وعُيّن مشرفًا عامًا على قطاع النفط في البلاد.
وقد وصفه المدير التنفيذي لشركة النفط النرويجية بقوله: “فاروق هو أفضل مبدع حظيت به النرويج على الإطلاق”.






إرث خالد
بعد أن أفنى عمره في خدمة قطاع النفط النرويجي، ترك فاروق القاسم بصمة لا تُمحى، إذ أسهمت سياساته في تحويل النرويج إلى واحدة من أغنى دول العالم، حيث أصبح صندوق الثروة السيادية النرويجي الأكبر عالميًا، ويعد مصدرًا رئيسيًا لرفاهية الأجيال القادمة.
في النهاية، يبقى فاروق القاسم مثالًا حيًا على عبقرية العقول العراقية، التي أثرت العالم بعلمها وإبداعها، رغم كل التحديات.
بقلم: د. علي موسى الموسوي