المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس
الكومبس – رأي: لم تكن الترجمة يوماً بالنسبة لي مجرد نقل للنصوص من لغة إلى أخرى، بل كانت دوماً فعلاً ثقافياً، تجربة أعيشها بكل تفاصيلها، وحواراً مستمراً بين العوالم. حين عملتُ على ترجمة أربعة أعمال أدبية سعودية إلى اللغة السويدية، ضمن مبادرة “ترجم”، كنت أدرك أنني لا أنقل مجرد كلمات، بل أعبر بجزء من هوية ثقافية إلى فضاء جديد.
من بين هذه الأعمال، لفتني بشكل خاص رواية “في ديسمبر تنتهي كل الأحلام“ للكاتبة أثير عبد الله النشمي، التي أصبحت أول رواية سعودية تُترجم إلى السويدية. الرواية ليست مجرد سرد، بل هي تجربة إنسانية تحفر عميقاً في مفاهيم الحلم والانكسار والتحولات العاطفية. وإلى جانبها، حملتُ معي إلى اللغة السويدية كتاب “ومضات سيرية”، الذي أشرفت عليه د. نوال السويلم، وهو مجموعة من السير الذاتية لعدد من الكاتبات، تتناول رحلات التحول والصمود بأسلوب بسيط لكنه ممتع ومؤثر.
أما في الشعر، فكان لي شرف تقديم ديوان “مقام النسيان“ للشاعر محمد إبراهيم يعقوب، وهو أول ديوان سعودي يُترجم إلى السويدية، ليضع الشعر العربي في قلب مشهد أدبي مختلف تماماً. كما عملتُ على ترجمة كتاب “في الميزان” وديوان “أعرف وجه اليأس جيداً” للشاعر حاتم الشهري، حيث حملتُ عبر هذه النصوص أصواتاً سعودية متنوعة، تنبض بالخيال والتجريب والذاكرة الشعرية العميقة.
الترجمة كهوية ثانية
المنفى ليس مجرد انتقال مكاني، بل هو حياة في لغة أخرى. كوني مهاجراً، لطالما شعرت أن العيش بين لغتين أشبه بالسير على حافة بين عالمين، حيث تصبح الكلمات جسراً وحيداً للانتماء. أشعر بعاطفة خاصة تجاه عملية الترجمة، حتى في أصعب لحظاتها. أحياناً تهاجمني رهبة الاختيار بين كلمة وأخرى، وأحياناً أشعر أنني أعيد كتابة نفسي في كل نص أنقله إلى لغة جديدة. لكن في النهاية، أعود دائماً إلى نفس القناعة: نحن – من نكتب أو نُكتَب، نترجم أو نُترجَم – نعاصر اللغة الجديدة كل يوم، ووجودنا معقود بمفرداتها.
حين أترجم، لا أنقل فقط قصة أو قصيدة، بل أضع أمام القارئ السويدي جزءاً من حياة كاتب عاش في بيئة أخرى، مختلفاً لكنه قريبٌ في إنسانيته. وهذا هو جوهر الترجمة بالنسبة لي: أن تصل الكلمات إلى قارئ جديد، وتفتح أمامه أفقاً لم يكن يدرك وجوده من قبل.
المنفى كحالة إبداعية.. استلهام إدوارد سعيد
كثيرًا ما أستعيد كلمات إدوارد سعيد حين أترجم: “التحرر بوصفه مشروعاً فكرياً، وُلد في حركات المقاومة والمعارضة ضد الاستعمار، لكنه أصبح اليوم متجسداً في المنفى، في وعي المثقف والفنان الذي يتحرك بين اللغات والأوطان”.
الكتابة في المنفى، كما أراها، ليست مجرد إعادة إنتاج للذات، بل هي إعادة تشكيل للغة بوصفها وسيلة مقاومة، تمرّداً على مركزيات ثقافية تحاول فرض سيطرتها. وكما هو حال الكاتب في المنفى، فإن المترجم أيضًا شخصية سياسية، يتنقل بين النصوص، ويحمل في يديه مسؤولية تقديم الأدب المغيّب، ومنحه صوتاً في اللغات الأخرى.
لماذا نحتاج إلى الترجمة اليوم أكثر من أي وقت مضى؟
رغم أن اللغة العربية أصبحت أكبر لغة أقلية في السويد نتيجة الهجرات المتزايدة، إلا أن الأدب العربي لا يزال يعاني من نقص في الحضور، مقارنةً بسيطرة الأدب الأنجلو-أمريكي. وفقاً لإحصائيات جمعية الناشرين السويديين، لم تتجاوز الكتب العربية المترجمة ستة إصدارات العام 2016، بينما كانت الترجمات من الهولندية إلى السويدية ثلاثة أضعاف ذلك. المشكلة ليست في غياب الأدب العربي، بل في غياب المنصات التي تروّج له وتحتفي به.
الترجمات القادمة من الإنجليزية تهيمن على السوق، ليس فقط بسبب قوتها الثقافية، بل أيضاً بسبب توفر محررين متمكنين من الإنجليزية في دور النشر السويدية. في المقابل، غالباً ما يتم التعامل مع الأدب العربي باعتباره أدباً “غريباً”، يتطلب جهداً إضافياً لفهمه، رغم أنه يحمل في جوهره ذات الأسئلة الإنسانية التي تشغل الأدب العالمي كله.
أؤمن بأن الترجمة ليست مجرد عملية تقنية، بل هي بناء جسر بين الثقافات. وحين يقرأ القارئ السويدي عملاً مترجماً من العربية، فهو لا يقرأ كلماتٍ فحسب، بل يفتح نافذةً على عالم مختلف، يشاركه في القلق والمصير نفسه، وإن كان في سياق جغرافي مختلف.
أن تترجم يعني أن توجد
“سيكون للنص تأثير أكبر إذا شعر القارئ بأنه صادر من شخص حقيقي”، هذا ما أؤمن به في عملي كمترجم. أريد أن يشعر القارئ بأن هذه النصوص ليست مجرد حكايات بعيدة، بل هي امتدادٌ لتجارب إنسانية يمكنه أن يجد نفسه فيها.
كل مرة أنهي فيها ترجمة كتاب، أشعر أنني أترك جزءاً مني بين صفحاته. ففي نهاية الأمر، نحن لا نترجم الكلمات فقط، بل نترجم ذواتنا أيضاً، ونبحث عن صوتنا في اللغة الأخرى، بين السطور التي نحاول أن نجعلها تنبض من جديد في عالم جديد.
عبد اللطيف حاج محمد