المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – رأي: وُلدتُ في قلب عائلة كبيرة دافئة، نحن أربع بنات وأربعة صبيان نكبر بين حنان والدين محبّين وضعا في كل ركن ذكرى تحكي حكاية دفء وأمان. كانت أجواء العيد عندنا تبدأ قبل حلوله بأيام إذ كان والداي يستعدّان لصنع كليجة العيد (المعمول) ذلك الطقس المميز الذي يجمعنا جميعاً حول دفء العجين ورائحة الهيل والسمنه حيث يمتزج الفرح بالتحضير وتمتلئ زوايا البيت بروائح العيد وبهجته.

كان أبي يروح للسوق قبل العيد بيومين حتى يحضر لنا السمن والطحين والمكسّرات والتمر، الكمية كبيرة تكفي لملء البيت فرحاً ونكهة، وحين يصير وقت عجن الكليجه يتأهّب إخواني الأربعة لبدء العجن. يبدأ أبي تذويب السمن ويضعه في حفرة وسط الطحين، ويبدأ إخواني بعجنها بكل طاقتهم وحماسهم، كل اثنين منهم يعجنون في صينية . ترش أمي الهيل بسخاء لتعطر العجين. ويدخل أبي في سباق مع إخواني بابتسامة عريضة. كان مدركاً بأن هذه اللحظات ستبقى محفورة في قلوبنا حتى بعد أن نكبر ونبتعد لتبقى رائحة الكليجة تستحضر كل هذا الجمال.

في هذا الوقت تبدأ أخواتي البنات تحضير الحشوات، تجهزن التمر والجوز حتى نحشوها. وبعد ذلك نقعد كلنا بغرفة واسعة وتتوزع المهام فتبدأ أخواتي الثلاث وأمي بحشو الكليجة بينما يضعها إخواني بالقوالب الخشبية التي تضج بأصوات الطَرق طول الوقت ثم يرصّونها في صوانٍ كبيرة حتى يأخذوها للخبز. وتكون الغرفة مليئة بالضحكات والنوادر والمواقف الطريفة، أحدهم يأكل من الحشوة ويحصل ضربة من أخته التي بجانبه، وآخر يطيّر كرة من العجين للهواء ويخجل بشدة حين تقع على رأس أبي. وأحياناً يرمونها على بعضهم من القالب مباشرةً! اتذكر أن الضحك كان أكثر من الشغل وكان والداي يتقبلان المزح بروح مرحة. ببساطة يصنعون العيد بأيديهما. أما رائحة الكليجة فكانت تفوح بمزيج من الهيل والمكسرات والسمن، رائحة عطرة ما زالت تسكن ذاكرتي حتى اليوم كلما شممتها تعيد إليّ مشاعر الانتظار والترقب والبهجة والفرح.

وبعد أن تكتمل عملية التشكيل يأخذها إخواني إلى المخبز، هناك يتجمع كل الجيران بانتظار الشوي لوقت السحور، يتبادلون الاحاديث المفرحة بسعادة غامرة. كنت ألح على إخواني حتى يأخذوني معهم وأظل أراقب الكليجة اثناء الشوي خشية أن تتبدل ويأخد أحدهم كليجتنا بالغلط.

وبحكم كوني أصغر أفراد عائلتي لم تكن لي مهمة محددة،كنت أتنقل بسعادة بين الصواني أراقب الجميع وأشاركهم بحماسي الطفولي سعيدة بملابس العيد التي اختارتها الي أمي بعناية: جنطة حمرة وحذاء بنفس اللون، وأحلامي الموعودة التي تدور حول الهدايا والعيديات والمراجيح وزيارات الجيران والأقارب الذين سيعايدونا في الصباح، وطبعاً تكون أمي قد طبخت أطيب الأكلات اللي تناسب فرحة العيد .

أرواح ذاقت الفرح لن تجوع

مرت الأيام وتغيّرت أمور كثيرة ولم يبق عندي سوى أخ وأخت يشاركانني ذكرى ما تبقى من ذلك الزمن بروح إيجابية غذتها طفولة نقية نشأنا عليها. صحيح أن الأشياء ضاقت وشحّ السخاء، لكن الأرواح التي ذاقت الفرح يوماً لن تجوع والقلوب التي عرفت العطاء لن تفقده. ربما تصغر دنيانا لكننا نحمل بصدورنا اتساعها.

اليوم تذكرت تلك الأيام الحالمة واتفقت مع أولادي ان نعمل الكليجة معاً وبحضور الأحفاد أيضاً حتى يحملوا في ذاكرتهم امتداد للذكريات المنعشة التي حملتها معي من أهلي.

سأستحضر روح الماضي وأضيف لها حلاوة الحاضر، ونصنع معاً ذكريات جميلة تبقى معهم لزمنهم المقبل بطعم مختلف لكنه مدهش.

ربّوا أولادكم على الفرح واللمة الحلوة واصنعوا لهم في هذا اليوم ذكريات لزمنهم القادم فالأولاد أهل جدد.

محاسن الزبيدي