سوريا

مشاهدات مغتربة عائدة: هل يتحدّى السوريون نظريات علم الاجتماع؟

: 2/4/25, 5:01 PM
Updated: 2/4/25, 5:01 PM
مشاهدات مغتربة عائدة: هل يتحدّى السوريون نظريات علم الاجتماع؟

المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس عن رأي الكومبس

الكومبس – رأي: عندما تلقيت نبأ هروب الطاغية وتحرير الشام، كانت مشاعري في البداية مليئة بالاختلاط، لكنها في معظمها كانت فرحةً عارمة، قلبي وعقلي معاً طارا إلى ساحة الأمويّين في دمشق، إلى قمة جبل قاسيون لأتأمل في وطنٍ غاب عني كثيراً. نزلتُ كما نزل مئات الآلاف من السوريين حول العالم، للاحتفال بالحرية معاً، رافعين العلم الحر، لكنّني شعرت أن من تحتفل وترقص وتغني هي أمّي الحُرّة، التي طالما تاقت لرؤية هذا اليوم، ويشاركها هذا الاحتفال أبي اللذان رحلا عنّا منذ فترة طويلة.

ومع اقتراب موعد العودة إلى سوريا، بدأت مشاعري تختلط من جديد. كيف سأواجه واقع الشام ( وهنا أعني عموم سوريّا) الحزينة، المُهترئة، المريضة، الموجوعة؟ هل يمكنُ لأهل الشام أن يفرحوا أو يكونوا قادرين على الإتيان بأي عملٍ كان بعد كل هذه السنوات الطوال العجاف من القهر و التجهيل و الإفقار المُمنهج؟ كيف يمكن لأهلها أن يفرحوا بعد كل هذه الأعوام من الألم؟ هل ستعود الحياة إلى هذه الأرض بعد كل ما مرت به؟ تلك النّظرة التّشاؤميّة ليست مبنيّةً على محض خيال، بل هي انعكاسٌ لما أسس له النظام المخلوع، و أنظمةٌ ديكتاتوريّةٌ قبله في المنطقة من ناحية، و هي انعكاسٌ لنظريّات علم النّفس و الاجتماع من ناحية أُخرى. حيث يذهبُ ماسلو، عالم النفس الشهير، في نظريته إلى أنّ هناك سُلّماً لحاجات الإنسان لا يمكن أن يصعد المرء إلى درجة فيه قبل أن يُشبع الدّرجة التي قبلها. وفي الوقت نفسه يقول عدد من نظريات علم الاجتماع إن التغيير في المجتمع لا يأتي دفعة واحدةً وإنّه يحتاج لعقود على أقل تقدير لإصلاح ما فسد من بُناه.
آخذة بعين الاعتبار هذه النّظريّات، وإذا وضعنا معها ما تطرحه علينا وسائل التواصل الاجتماعي من أفكار تشاؤميّة، كُبتت فرحتي و تبدّلت قلقاً جعلني أُفكّر كل دقيقةٍ حتى في أثناء النّوم في أسوأ السيناريوهات. لكنّ ما جرى معي و رأيتهُ بأمّ عيني و سمعته بأذنيّ، جعلني أُعيد النّظر في كلّ ما تعلّمناه من نظريّات. وإليكم بعضاً مما سجلته من مُلاحظاتٍ و أنتم تحكمون معي.

نظريات علم النفس والاجتماع تقول إن التغيير يحتاج لوقت طويل، وإن إصلاح المجتمع سيستغرق عقوداً. لكن، ما شهدته بعيوني غير كل توقعاتي، وجعلني أعيد النظر في كل ما تعلّمته من نظريات. عند المعبر الحدودي بين سوريا ولبنان، رأيتُ موظفي الحدود يبتسمون ويرحبون بنا، وقدم أحد رجال الحرس عبوات ماء لنا مع ابتسامة عفوية، تُعبأ في إدلب. كان ذلك سلوكاً طيباً، وإن كان قد يبدو استثناءً، ولكنه بدا إيجابياً.

وجوه السوريين تحكي الكثير

عند دخولي إلى الأراضي السورية، وقفت أراقب وجوه الناس، وهل سأرى تلك الوجوه الحزينة المقهورة؟ لكن، لم يكن ذلك ما رأيته! صحيح أن هناك أثراً من الهزال في بعض الوجوه، لكنني قرأتُ في أعينهم شيئاً لم أره من قبل، قرأتُ التفاؤل والأمل في ملامحهم، ورغم صعوبة الظروف، كان هناك شعورٌ بالإصرار والتفاؤل.
في صباح اليوم الثاني من وصولنا إلى دمشق ذهبنا إلى قمة قاسيون لتناول بعض الشطائر و الشاي، وهو أمر طالما كنّا محرومين منه كسائر السوريين. وهُناك عانقت عيوني وجوهَ وعيونَ النّاسِ القادمينَ من دمشق وبعض المُحافظات المنتشرين في كل مكان هازجين مسترخين يستمتعون بشمسٍ جاءتنا وكأنّها نبوءة فرحٍ وتفاؤلٍ في عزّ الشتاء. كم شعرت بالسعادة والغبطة لفرحهم وسعادتهم، وهم الذين قد حُرموا من هذه المشاعر الجميلة سنواتٍ طوال. إطلالة قاسيون هذه أعطتني شعوراً عميقاً من التفاؤل والارتياح من أجلهم جميعاً.

الشباب الذين نشؤوا في ظل الحرب، والجوع، وغياب الكهرباء والماء، والبطالة، وانتشار المُخدرات وغياب الرقابة على التعليم ماذا نتوقع منهم بعد انهيار النظام؟ لكن ما رأيته كان مختلفاً. في الشوارع، كان الشباب ينوبون عن رجال الشرطة وعمال النظافة الذين اختفوا فجأة. كان هؤلاء الشباب يعملون بشكل احترافي وكأنهم تدربوا على ذلك. إنهم يسهمون في إعادة بناء الأحياء، ويقومون بأعمال تطوعية بشكل منظم وملتزم.

رغم التحديات، كان التعاون بين الناس واضحاً. حتى في الشوارع الضيقة والمظلمة، كان السائقون يتعاملون مع بعضهم البعض بأدب، رغم أن السيارات كانت قديمة والإضاءة ضعيفة. هذه التفاصيل الصغيرة أظهرت لي تغيراً جذرياً في سلوك الناس.

هل اختفت جميع مشاكل سوريا فجأة؟ بالطبع لا! التحديات لا تزال موجودة، والفساد لم يختفِ تماماً، لكن ما أراه هو أن السوريين الأحرار قد بدؤوا يدركون أن وطنهم قد تم انتزاعه منهم لسنوات، والآن عاد لهم مجدداً، وهم عازمون على العمل لبناء سوريا جديدة. هذا التحول في السلوك والروح الوطنية هو ما دفعني لأن أقول بأن سوريا هي جنة الله في أرضه، وستعود كما كانت.

نجح السوريون، وبالتحديد الجيل الجديد، في تحدي جميع التوقعات الفلسفية والاجتماعية التي تحدثت عن بطء التغيير في المجتمع. لم يتوقف السوريون أمام نظريات ماسلو أو التغيير الاجتماعي، بل هم اليوم يعملون بكل قوتهم لإعادة بناء وطنهم، رغم كل الصعوبات.

ما الذي يجري هُنا؟ هل اختفت كُل مشاكل سوريا و السوريّين فجأةً بمُجرد سقوط الطاغية وفراره؟ هل أضحت أرضُ الشام جنّة الله في أرضه أو الدّولة الفاضلة، حيث لا فقر ولا تحديّات ولا أحقاد ولا أخطاء؟ كيف هزم السوريون الأحرار والسوريات الحرائر نظريات علم النّفس والاجتماع؟

أمّا المشاكل والتحدّيات فهي بالطبع لم تختفِ ولم تتبخّر. وأما السّوريّون فهم لم يتحوّلوا إلى ملائكةٍ. كُل ما في الأمر أنّ الشعب السّوري، بنسائه ورجاله، شابّاته وشُبّانه، قد أدرك أن وطنه كان مسروقاً منه و قد عاد مُلكاً له وحدَهُ و أنُه لا باقٍ إلا الحق. فشمّر عن سواعد الجدّ العمل ليرقى بوطنه، فردوسه المُستعاد ضارباً عرض الحائط بكل ما من شأنه أن يعيق نجاح سوريّا الحُرّة، التي ولدت من جديد.

تنويه: لستُ أزعُم أن هذه مقالة علمية، رغم أنني أستند فيها إلى منهج الملاحظة والاستقراء، وهما من المناهج العلمية المتعارف عليها.

مي سمهوري

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2025.
cookies icon