الكومبس – لقاءات: لعل القليل ممن يقابلون سعاد خيري، المرأة العراقية التي تجاوز عمرها 86 عاما، في طرق وساحات ضاحية (تينستا)، يعرفون عن تاريخها الحافل بالنضال ومساندة القضايا العادلة، إضافة إلى حبها وانتمائها إلى بلدها العراق. ضاحية (تينستا) التي تقع شمال مدينة ستوكهولم، يمكن أن تكون نموذجا لعالم مصغر، فعندما تدخلها سائحاً أو زائراً، أو قادماً جديداً إلى السويد، لا تحتار أبداً في التفاهم مع سكانها، فبكل اللغات واللهجات والرطنات يتحدثون، وبكل الأعراف والعادات والتقاليد يتعاملون، وبكل الثقافات فنوناً وآداباً يندمجون، عدد كبير من الجنسيات، وطيف من الثقافات المختلفة، يحاول الانصهار في بوتقة الثقافة السويدية، فيغنيها ويزداد بها غنا، حيوية وتفاعل وحياة صاخبة، محبة وتعاون وهدوء وسلام، واحترام للقانون الذي يكفل حرية الجميع، فلا غرابة أن تكون هذه المدينة الصغيرة الحية، مبعثاً لحياة متجددة لمن ينشدها، بما تجسده من لحمة وتآخ وتعايش، ودافعاً لمن يريد أن يعيش بين الناس، وقد يكون هذا سبباً مقنعاً، لبقاء السياسية العراقية المخضرمة سعاد خيري في هذه المدينة، ولم تبارحها أبداً، لمدة تزيد على العشرين عاماً، وفي نفس البيت الذي تشاركت فيه، مع زوجها الراحل السياسي العراقي المعروف زكي خيري.
سعاد خيري: ” الشعب الفلسطيني من الشعوب التي علمت البشرية الكفاح ومقاومة المحتل”
قبل أن ندخل عالم الدكتورة سعاد خيري، بعد أن دخلنا بيتها المتواضع الأنيق، واستقبلتنا بحفاوة وابتسامة واثقة، فنحن نعلم بأنه لا يمكننا الحديث عن سيرة حياة هذه المرأة المناضلة، ما لم نتوقف عند محطات عديدة، من مسيرة الحركة الوطنية واليسارية في العراق وفي المنطقة العربية، فهذه المناضلة السياسية العراقية تأكد، بأن مسيرتها النضالية ارتبطت بحب الوطن ومصائر الشعوب وبالقضية الفلسطينية.
تقول “إن مواقفي السياسية والنضالية، هي جزء من نضالات الحزب الشيوعي العراقي، وهي جزء من نضالات الشعب العراقي، التي كانت دائماً ساندة وداعمة للشعب الفلسطيني، رغم كل محاولات الحكومات المتعاقبة على الحكم في العراق، لتشويه هذا التضامن، وأنا أعتبر أن الشعب الفلسطيني، هو من الشعوب التي علمت البشرية، أنواع الكفاح ومقاومة المحتلين، الذين يحاولون مصادرة حقوق الشعوب وحريتها وأصالتها وحبها للبشرية”.
“دعاة الحروب يريدون إعادة البشرية الى القرون الوسطى”
وجدنا من المفيد أن نتوقف عند أولى محطات حياتها الثرية، وندع الأفكار تأتي تباعاً، لاعتقادنا بأنها ستكون مقدمة لحديث شيق وممتع، مع امرأة مناضلة من طراز خاص، تتحدى حكم الزمن القاهر وحصاد السنين المر، بروح مقبلة على الحياة، وبوجه يشع أملاً وإشراقاً، وبنفس واثقة بمستقبل واعد أكيد، “إن هناك سعي محموم من دعاة الحروب وأعداء الشعوب، لإرجاع البشرية إلى القرون الوسطى، كي تستمر الرأسمالية في تعزز نفوذها وبسط سيطرتها، وهذا أصبح من المستحيل في هذه الأزمان، لأن البشرية بلغت من الوعي المعرفي والتطور العلمي والتقني، ما يجعلها ترفض هذه الدعوات وتسخر من دعاتها، فالبشرية هي التي تخطط لحياتها وترسم مستقبلها، ولا تكترث كثيراً لأصحاب العقول الهرمة، فمن يخطط لامتلاك الفضاء والعيش في كواكبه، لا تهمه الدوائر الصغيرة على الأرض”.
ولدت سعاد في مدينة بغداد، في التاسع والعشرين من آذار / مارس عام (1929)، في بيت جدها لأمها (شاؤول شينا)، وانتقلت عائلتها بعد ذلك إلى مدينة العمارة جنوب العراق، بعد أن رفض جدها المعروف بحسه الوطني وأفكاره اليسارية، التعاون مع سلطات الاحتلال البريطانية، وتخلى عن مركزه كعضو في (المجلس الجسماني)، للطائفة اليهودية في العراق، وقبل بوظيفة مدير لمدرسة ابتدائية أهلية في العمارة، وترعرعت سعاد في عائلة علمانية مشغوفة بحب الوطن، الذي عشقته ومازالت تتغنى به: “عشت طفولتي في العمارة، تربيت على ضفاف دجلة، وخضت مياهه العذبة، واستقبلت صباحاته الجميلة، وتمتعت بأمسياته الرائعة، وجمال نجومه في ليالي الصيف الهادئة، تتخللها أصوات العاشقين العذبة، بأنغام شجية تجوب الضفاف مشياً، أو تعبر دجلة بقوارب صغيرة (المشاحيف)، لقد تركت تلك الأجواء الرومانتيكية الساحرة، عشرات القصص الغرامية، التي تفوق روايات مجنون ليلى وروميو وجولييت”.
توزعت حياة سعاد خيري بين العمل المهني الطلابي والنسوي، والعمل الحزبي السري والعلني، وملاحقة الشرطة السرية لها، والسجون والمعتقلات التي كانت نزيلة فيها، وبين المواقف الدعمة لشعوب العالم المضطهدة، ووقفاتها التضامنية المتواصلة معها، وهي ترى أن النضال ضد الاستعمار والصهيونية، لا يمكن أن يتوقف أبداً، ولا يمكن أن تستثنى منه المرأة العربية إطلاقاً، وأن “الحركة النسوية هي جزء رئيسي من الحركة الإنسانية، لأن المرأة تلعب الدور الرئيسي في المجتمع الإنساني، وبقدر ما يتطور المجتمع تتطور معه الحركة النسوية، وأن مستقبل المرأة العراقية والعربية هو جزء من مستقبل المرأة العالمية، والحركة النسوية هي الرائدة دائماً في كل الحركات الوطنية”.
ترفض إطلاق سراحها من السجن مقابل الحصول على الجنسية الإسرائيلية
لقد خيروا سعاد خيري وهي في السجن، إما أن يسقطوا عنها الجنسية العراقية ويرحلوها إلى إسرائيل، أو أن تتخلى عن الديانة اليهودية وتعتنق الديانة الإسلامية، فاختارت الإسلام واحتفظت بجنسيتها العراقية، وعندما زارها في السجن وفد من حزب العمال البريطاني عام (1948)، وكانت تقضي حكماً بالسجن المؤبد، وعرض عليها الوفد إطلاق سراحها فوراً، مقابل منحها الجنسية الإسرائيلية والسفر إلى إسرائيل، رفضت خيري بشدة وقالت لهم، “الذنب ليس ذنبكم أنتم وإنما ذنب الحكومة العراقية، التي سمحت لكم بالمجيء إلى العراق وبزيارتي في السجن، ولو بقيت مائة عام في السجن لن اترك بلدي ولو ليوم واحد”، وتأكد خيري بأن الضغوطات عليها بالسفر إلى إسرائيل، ما زالت مستمرة حتى هذه اللحظة، “هم يقومون بتحريض أهلي وأخوتي في إسرائيل، ويحاولون استغلالهم كوسيلة للدعاية، ولماذا أصبح أنا وسيلة لدعايتهم؟، وأنا كل ذرة في كياني تنبض بالعراق، وكل خلية بجسمي هي جزء من تربة العراق ومياه العراق وشمس العراق”.
إن من أولى المظاهرات التي ساهمت فيها سعاد خيري، كانت ضد قرار التقسيم عام (1947)، وآخر إضراب عن الطعام شاركت فيه، كان في حرب غزة (2002)، مع شبيبة حزب اليسار السويدي في ستوكهولم، أمام مبنى البرلمان السويدي، ولم تستطع إكمال الإضراب لتدهور وضعها الصحي، فنقلت على أثره إلى المستشفى، ومازالت سائرة في طريق النضال رغم تحديات الزمان، وبفيض من الحب قالت، “أنا أحب كل العالم وأحب العراق وأهله، وأحب السويد وشعبها، فهم أصحاب الفضل علينا، وهم البلد الذي مكننا من أن نمارس حياتنا، بكل حرية وبكل أمان، وأود أن أتقدم بالشكر والامتنان إلى شبكة الكومبس الإعلامية على هذه الالتفاتة الكريمة، مع أمنياتي لكم بالتقدم والازدهار”.
محمد المنصور