الكومبس – خاص: “لم أرقص، ولم أردد الأغنية الشهيرة “بندوسهم بندوسهم”، استغرقني ما بعد إعلان السقوط، وما قبل إعلان السقوط.. استغرقتني المّدن المدّمّرة، والرفاق مجهولي المصير”، هكذا يصف الروائي والصحفي السوري المقيم في برلين نبيل الملحم تفاعله مع لحظة إعلان سقوط النظام السابق في سوريا صباح الثامن من ديسمبر.
يقول الملحم إن سوريا “لا تتقبل التطرف ولا تصفّق له إلاّ مغلوبة على أمرها”، معتبراً أن “الجامع الأموي هو سوريا بتراكمها وبإرثها الحضاري الثقافي التاريخي وقد امتدت دولته إلى الأندلس. هناك حيث الحرف العربي، والنقوش العربية وقرابة خمسة آلاف مفردة باللغة الإسبانية، تعود جذورها للغة العربية”.
في هذه المقابلة يروي الملحم للكومبس تصوراته عن سوريا قبل وبعد سقوط النظام، مؤكداً أنه مع عودة السوريين إلى وطنهم “لكن ليس للاستعراض. العودة بما يعنيه العائد الحامل للمشروع الوطني، الحامل لـ”وعد”، أظن أن الأغاني استنفدت موسمها، وبات الوقت يحثنا على أن نشتغل على البناء. أن نتحوّل من روّاد مقهى إلى معماريين، سوى ذلك ما قيمة العودة؟”.
تقول عن نفسك “هنا يرقد رجل ظنّ على الدوام أن الحياة مبهرة”، هل خابت توقعاتك في حياتك وحياتنا؟ لماذا كل هذا اليأس، رغم أنك تقول أيضاً أنك تعشق تلك الرقصة اليونانية التي تنتهي بتكسير الأطباق، بما فيها من زخم، وتكسير لكافة القوانين، وربما الشريعة بذاتها؟
سؤال الحياة، بمعنى سؤال الوجود يتوه في الضجيج، ومن ثم يتأجل لتأتي لحظة فارقة تستعيده ربما بكثافة.. قد تستعيده ربما بحادثة، وسأخبرك عن الحادث الفارق الذي أعاد السؤال إليّ.. قبل سنوات زارني في دمشق الممثل المصري علاء مرسي، وعلاء ذو نزعة ومزاج صوفيين، فهو من تلامذة الحبيب الجفري الداعية الصوفي اليمني. طلب مني علاء أن نزور ضريح بلال الحبشي، ولم أكن أعلم أن مؤذن الرسول مدفون هنا، على ذراع من دمشق، تقصيت عن مكان القبر فدلّونا على مسجد في ضاحية داريا القريبة من دمشق، وكان مدفن بلال الحبشي يقع في حديقته الخلفية مهمّلاً منسياً..وقد وقفنا بمواجهة قبر بلال، وبصمتٍ لا تعكّره الثرثرة، سمعت صوت مؤذن الرسول، نعم سمعته، ومع صوته رأيت رحلته، وقد هجر مكاناً ليس فيه رسوله ما بعد وفاة الرسول وتوقف بلال عن الآذان وقد جاء دمشق مشياً على قدميه، هذا بلال الحبشي، الأسود، أما رسوله فكان يعني بالنسبة له، نازع الأغلال من يديه، ومحرره من العبودية، التي طالما عاناها السود الأفارقة، وكان لرسوله أعظم آياته “لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلاّ بالتقوى”، يا إلهي كم يصح أن يعلّق هذا الكلام على مداخل المدن ليحكي باختزاله نبل الحرية، بل نبل محمد.
لو خيّرت لحظتها لحفرت هذا الحديث على شاهدة قبر بلال، وكما تعلم، فثمة قبور تحمل شواهد، وقد تختزل شاهدة القبر مسار المدفون فيه لتكون بمثابة سيرة حياة، فعلى رخام شاهدة مدفن أبو العلاء حُفِرت كلماته “هذا ما جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد”، فاختُزل الرجل بكلمات، وكان من حقي كما من حق أيّ كائن مسكون بالقلق وبسؤال الموت، أن أكتب جملتي “الحياة مبهرة” ثم أحتجّ على الموت بالرقصة اليونانية التي لا تخلو من تكسير الأطباق. هو تمرد غير محمود العواقب، مواجهة خاسرة مع المصير، مواجهة لرجل لم يستسلم، مع يقينه أن معركته خاسرة. هي لعبة مقامر لا يتقن فَتَّ الورق، ومع ذلك يقامر بما لديه، لو حدث، ومُتُّ وكان لي شاهدة قبر فستكون هذه هي شاهدة قبري.
لننتقل من تأملات الوجود إلى وقائع اللحظة. هل كنت تتوقع أن يسقط النظام السوري بهذه السرعة؟ أو هل تصدق أن هذا النظام قد سقط بالفعل؟ وكيف استقبلت تلك اللحظة التاريخية فجر الثامن من ديسمبر 2024؟
لم أرقص، ولم أردد الأغنية الشهيرة “بندوسهم بندوسهم”، استغرقني ما بعد إعلان السقوط، وما قبل إعلان السقوط.. استغرقتني المّدن المدّمّرة، والرفاق مجهولي المصير، فكانت اللحظة اللزجة، هي كذلك وقد تأرجحتُ ما بين الصمت الثقيل والصراخ المدوّي فاخترتُ الصمت، ومع الصمت لا بد من لحظة ذهول تتلوها حالة صحو شديد هو الصحو الأشبه بما بعد سقوط صدّامَ في العراق، ونظام القذافي الذي عاش من 1969حتى 2011.
وها هو نظام الأسدين يسقط بلا كرامة، وقد انتابني ما بعد سقوطهما مشاعر مختلطة، فهذا الطراز من الأنظمة لا يسقط إلا ليُسقِط معه البلاد كل البلاد، هو كائن متحوّر أولى أولوياته أن يخلق نموذجه في خصمه، وأن يغرس أنيابه في المستقبل بما يجعل المستقبل مثقلاً بالجراح، فكان سؤالي يتركز على ما يمكن اختزاله بـ”اليوم التالي”.. ثمة حقيقة واحدة كنت قد وصلت إليها وهي: ما من يوم أسوأ سيتلو أيام هذه العائلة المتوحشة التي لا تختزلها مفردة “السوء”، ومن بعد هذه الإجابة نمت لثلاثة أيام متصلة، كلما صحوت أحصيت سنوات عمري، وكلما أحصيتها وقعت في وجع الزمن، وقد اقتطعت وحشيتهم ثلثي عمري، وبما تبقّى لي من زمن لن يكون كفيلاً بالتعويض عن الزمن المقتول.. هذه العائلة، وأعني عائلة الأسد عائلة فاجرة في إماتة الزمن.. هذه العائلة اشتغلت على توطيد أركان “اللا زمن” فزمن السجن ليس زمناً يمكن الاحتكام إليه وقد حوّلت البلاد كل البلاد إلى سجن، أنت فيه إما سجين، وإما احتياطي سجين.
“الخرائط التي ترسم بالحبر قد تُزال بالدماء”
تقول في كلمات لك على الفيس بوك ان المعضلة السورية اليوم هي الاختيار ما بين خيارين مستحيلين إما التقسيم المستحيل، وإما التعايش المستحيل، وللهروب من هذه المعادلة علينا البحث عن عقلاء سوريا. من هم عقلاء سوريا؟ وإلى أي من الخيارين تميل؟
ـ أول ما اشتغل عليه الأسد الراحل وأورثه لابنه فيما أورث، هي صيغة “رهاب الجار من الجار”، هذا ما اشتغل عليه منذ أن استولى على السلطة وكرّس ما يدعى بـ”حماية الأقليات”، وكان من نتائجها أن وضع السوريين أمام واحد من خيارين: إما تحت إبطه، وإما تحت سيفه، فمن لم يَحتَمِ بإبطه وضعه تحت سيفه.. هذا لا ينطبق على الطوائف، القوميات، الإثنيات فحسب، بل يطال حتى القوى السياسية التي كانت تحت واحد من طريقين، الموت تحت التعذيب والمنفى، أو الموت بالاحتواء..لعبة أتقنها الرجل، ومن بعده لعبها الابن، وكلاهما الأب والابن استثمرا في تحالف العنف والفساد وقد طال استثماره “الكلّ”، وما إن انطلقت ثورة السوريين، حتى ألحق الدمار بالمدن والأرياف “السنيّة” على وجه الخصوص، كما لو أن له ثأر شخصي مع هذه البيئة التي لا تمثل مذهباً دينياً كما يحلو للبعض القول، بل هي “الأمّة” بما تعنيه من ميراث حضاري / ثقافي، ومع لعبته هذه زجّ بطائفة مُفقّرة، هو سبب فقرها بما يمكن تسميته بـ”الميري” الذي يعني رداء السلطة، فكان أن تحوّلت هذه الطائفة المُفقّرة إلى واجهة في الصراع، لتكون ضحية مرتين، مرة بعزلها عن الدولة الجامعة، وثانية بالتسبب لشبابها بالموت، لا من أجلهم، بل الموت من أجله، وكان والده فيما سبق قد فتك بالمرجعيات العلوية التي تمثل ضمير الامّة من نموذج محمد الفاضل، فيما فتك الابن بطلائع هذه الطائفة من مثقفين ومنتجي رأي كما حال عبد العزيز الخير، ومجموعة كبيرة من العلويين الذين فتكت بهم السجون.. هذه اللعبة الدامية التي لعباها (الأب وابنه)، ستُستَكمل باللعبة الدولية التي تنطوي على الكثير من الاحتمالات الخطيرة على أساس أن الأرض السورية ستستخدم لبلورة قواعد النظام العالمي الجديد. النظام الذي يعني تحوّلات في الخرائط، والخرائط التي ترسم بالحبر، قد تُزال بالدماء، وهو أمر يعني فيما يعنيه إمكانية تشظي البلاد، بما يجعل سوريا التي نختلف على طرازها اليوم، لن تبقى لنختلف عليها.
لعبتان تتلاقيان وتتوافقان على التقسيم، والتفكيك، ولكن ليس قبل أن تغرق البلاد بالدماء.. الدماء التي قد تصل إلى شكائم الخيول كما تقول الأسطورة.
تحدثت في هذين الشهرين بعد سقوط الأسد عن الانتقام وما يألو إليه من حرائق لن تنطفئ؟ هل ما يحدث اليوم من بعض تجاوزات لبعض عناصر هيئة تحرير الشام، نابع من حسّ عميق بالانتقام، رغم ما يحسب للهيئة من تمرير هذه الفترة الحساسة في حياة السوريين، دون حوادث مأسوية كبيرة؟
هذا ليس سوى تفصيل في اللعبة الكبرى.
“سوريا لا تتقبل التطرف”
تقول إنك في لحظاتك السوداوية كنت تلجأ الى الجامع الأموي، وتحدثت عن الإسلام الشامي، والذي هو كما وصفته “كمشة مشمش مجفف، مع حفنة لوز، مع كلمات مختصرة ترجو لك الهداية”. وتكمل أنك من دون هذا الإسلام بشكله الشامي ستبقى في يتم حضاري، ولقيط في التاريخ مقطوع الجذور. السؤال هنا هل تقبل البرجوازية السنية في حلب، ودمشق، على السواء، أي شكل من أشكال أسلمة سوريا، بإطارها المتشدد؟ أم أن 54 عاماً من الخراب، ستجعل السوريين يستمرون في هذا الخراب، وتبديل الزنزانة بزنزانة أخرى كما تحب أن تقول؟
حين يغيب شكري القوتلي والكتلة الوطنية ويحلّ محلهما السمسار والقوّاد، لن تحافظ البلاد على هويتها، حين يغيب أصفر ونجار والشركة الخماسية ويحلّ محلهما مال الدولة السائب وآل مخلوف، فكل شيء في سوريا مباح، وحين تكون في زيارة للمسجد الأموي فكل ما عليك أن تعلمه، أن هذا المسجد هو سوريا بتراكمها وبإرثها الحضاري الثقافي التاريخي وقد امتدت دولته إلى الأندلس، هناك حيث الحرف العربي، والنقوش العربية وقرابة خمسة آلاف مفردة باللغة الإسبانية، تعود جذورها للغة العربية. حين تكون في حضرة المسجد الأموي، فأنتَ في الاسترسال الحضاري الذي بُني على ما قبله ولم يقطع معه. هو سوريا التي صدَّرت لروما الإمبراطورية، سبعة أباطرة، وملأت خزائنها بقمح حوران، هذه هي سوريا التي لا تقبل التطرف ولا تصفّق له إلاّ مغلوبة على أمرها، أما إلى أين سنذهب؟ هذا سؤال متروك للمستقبل لن أصادره بالإجابة عنه.
أنت قلت إن كل القصور زرائب إن لم تتحقق الكرامة لـ”القصر العدلي”. في الأسابيع الأخيرة عين قائد الادارة العسكرية الجديدة في سوريا أحمد الشرع، شادي الويسي وزيراً للعدل، هو ليس حقوقياً، بل خريج في كلية الشريعة، هل يمكن إعادة الاعتبار إلى القانون والدستور، دون مفكرين قانونيين، يحملون سوريا الجديدة الى مصاف الدول المتحضرة؟
سأقتبس من ونستون تشرشل ” إذا أردت أن تعرف أيّ شعب في العالم، انظر إلى قضائه ومن يمثله فيه، وبعدها سوف تعرف أيّ الشعوب تستحق الرمي بالورود أو بالحجارة”، فإذا اخترنا ألا نُرمى بالحجارة فعلينا توطيد احترام المؤسسة القضائية. توطيد العدالة، من دونها سنتحول إلى غربان تنهش غربان.. أما عمن أصبح وزيراً للعدل، ما هو تاريخه وسيرته فهذا ليس سوى قطعة من البازل الكبير.
أستاذ نبيل أنت ترفض أن تدعى من الاقليات أو “أقلوي”، ما الذي يهدئ روع كثيرين ممن يحبون على الأغلب تسمية، نفسهم أقليات، ويحاولون أن يقتسموا بعض الحقوق الخاصة، التي لا تسمو إلى كونها حقوقا طبيعية يمكن الحصول عليها، من دولة ديمقراطية تقوم على المساواة والمواطنة.
واقع الحال هو واقع “أقليات”.. أقليات بلا شك تتبادل مع الأكثرية فوبيا الآخر منتظرة الجثث على ضفة النهر، هذا واقع الحال الذي يفقأ العين. ما من حلّ لهذه المسألة سوى ما اختارته الأمم، التي اختارت العدالة.. التنمية.. الرفاهية.. العيش.. احترام الأحياء، هي تُختَزل بكلمة واحدة “المواطَنة”.
السويداء بدأت حراكاً شعبياً منذ أكثر من عام قبل سقوط النظام، ربما هو استشراف مبكر بأن النظام أصبح في فصوله الأخيرة؟ أم هي محض صدفة لطيفة؟ واليوم هل مخاوف الدروز مشروعة؟
هي ليست صُدفة وليست استقراء مبكّراً، هو انفجار شعبي كان لا بد له أن يكون.
أنت اليوم في المنفى القسري الذي فرض علينا جميعاً حتى في الداخل، هل تفكر بالعودة إلى سوريا وإلى خمارة جورج ومقهى الروضة، وهل لديك رغبة بدعوة للسوريين في الشتات في السويد وغيرها، للعودة إلى بلادهم لإعادة بنائها؟
أكيد، العودة، ولكن ليس للاستعراض.. العودة بما يعنيه العائد الحامل للمشروع الوطني، الحامل لـ”وعد”، أظن أن الأغاني استنفدت موسمها، وبات الوقت يحثنا على أن نشتغل على البناء. أن نتحوّل من روّاد مقهى إلى معماريين، سوى ذلك ما قيمة العودة، لا، إن لم يكن الأمر كذلك فلتبقَ في عزلتك.. عزلة المنفى.
“بتّ أشتغل ممحاة لشغلي”
لك أعمال روائية كثيرة ” موت رحيم” و”بانسيون مريم” و”آخر ايام الرقص” و”سرير بقلاوة” هل تجهّز عملاً روائيا ستخص به السوريين، ستجمع فيه كل فرحك وأحيانا خيباتك من العمر الذي أضاعه الديكتاتوريون، رغم أنك ربما ترفض أن تطلق على بشار لقب ديكتاتور؟
كلما أوشكت على إنجاز عمل، أقوم بتمزيقه، بتّ أشتغل ممحاة لشغلي، أما عن الديكتاتور، فبشار ليس دكتاتوراً، هو “آلة قتل”، للديكتاتوريات على بشاعتها منظومات قيم.. قيم في العمارة، بالموسيقى، بالتنمية، بالطموح لأمم متفوقة، بشار وأبوه ليسا سوى آلات قتل. هل بوسعك أن تتذكر عمارة واحدة جديرة بالتأمل والاحترام تحمل أي من اسميهما؟ لا تُهِن الدكتاتوريات باحتسابهما عليها.
أجرى المقابلة من دمشق أنيس المهنا
من هو نبيل الملحم؟
كاتب وروائي وإعلامي سوري من مواليد العام 1953. أعد وقدّم برامج تلفزيونية منها: ظلال شخصية.ولديه مجموعة من الكتب المطبوعة، مثل: بوليساريو – الطريق إلى الغرب العربي. ومن رواياته “آخر أيام الرقص”، و”موت رحيم”، و”بانسيون مريم”، و”سرير بقلاوة الحزين”، و”حانوت قمر”. كما كتب مسلسلين تلفزيونيين هما “ليل السرار”، و”أرواح منسية”.