هذه السنة الثالثة على التوالي التي أحضر فيها حفل جائزة الصحافة السويدية الكبرى، لكن حفل هذا العام الذي كان الخميس 16 نوفمبر، كان له وقع خاص في نفسي، خاصة عندما وجهت الصحفية المخضرمة Christina Jutterström الفائزة هذا العام بالجائزة كلمة مؤثرة للصحفيين قالت فيها إياكم أن تخضعوا، خاصة في هذه الظروف القاسية، أو أن تتنازلوا عن مبادئ هذه المهنة التي هي من أعظم المهن وأكثرها إنسانية.
وأنا في حفل تكريم الصحفيين السويديين أمس، تذكرت ما معنى أن تكون صحفياً اليوم في غزة، حيث سقط أكثر من 40 صحفياً إلى الآن ضحايا وهم يقومون بواجبهم في توثيق الحقائق وفي أن يكونوا شهوداً منحازين إلى الحقيقة.
مع كل صحفي تحدثت معه في الحفل أمس،كان محور الحديث السؤال الحاضر هو عن غزة، كيف تغطون الأحداث؟ كيف ردود فعل المتابعين العرب والناطقين بالعربية هنا في السويد، عما يحدث هناك؟ على ماذا تركزون أكثر بصحافتكم حالياً؟ هل تشعرون بضغوطات من جهة أو جهات معينة؟ وأسئلة أخرى من هذا القبيل.
مع أن الأسئلة كانت تبدو صعبة، فإن الإجابة عليها بالنسبة لنا كانت سهلة، نعم نحن نشعر بالضغط ولكنه ضغط الواجب والمسؤولية، مسؤوليتنا أمام المتابعين لنقل صورة صحيحة عما يحدث من حولهم في السويد، وكيف تتفاعل السويد مع أحداث غزة، كيف تتفاعل السويد الرسمية، والأحزاب السياسية، والمنظمات المدنية و الجمعيات والجاليات وكذلك مراكز الضغط والتأثير على توجهات الرأي العام بما فيها الصحافة.
نحن نحاول نقل كل ذلك للمتبع حتى يشكل الصورة الصحيحة عن الوسط الذي يعيش فيه، ما يهمنا هو نشر “المعلومة الصحيحة” حتى ولو كانت هذه المعلومة حقيقة قاسية، يجب أن نتعامل معها، لكي تصل إلى الناس، وبها ومن خلالها يستطيعون مجابهة الظواهر الاجتماعية التي تواجههم، دون يأس أو مزيد من العزلة، دون اقتراف أخطاء تحول رأيهم إلى حجة عليهم، دون خوف من استخدام حقهم بالتعبير عن الرأي بقوة الديمقراطية والقانون.
هذا واجبنا الأول، أن نبقى بجانب المتابعين وقريبين منهم، قرب الصديق للصديق.
نعم ما يحدث في غزة الآن من أعمال قتل وتجويع وإذلال للناس، شيء غير مسبوق ولا يمكن لأحد أن يتصور أن كل ذلك يجري على مرأى ومسمع من العالم الحر في هذا العصر، ما يحدث الآن لا يسمح لأحد أن يختبئ وراء أي عذر، لكي يلعب دور الشيطان الأخرس، وأن يعيد الأسطوانة المشروخة التي بات يرددها العالم بما فيه الدول العربية نفسها، باستخدام اللغة الدبلوماسية الحذرة المتوازنة.
بات السكوت عن تسمية الأمور بمسمياتها يظهر أكثر وأكثر عجز العالم، فالأمر لم يعد يخص سكان غزة فقط، بل أصبح الأمر يتعلق بالإنسانية كلها، الإنسانية المهددة بفقدان إنسانيتها.
ورغم مخاوف الاستقطاب السلبي في المجتمع السويدي، ومخاوف انعدام ثقة مجموعة من السكان، بالسياسيين وبوسائل الإعلام وبالحكومة، فإن هناك مؤشرات حول عملية فرز إيجابية تحدث الآن، فرز بين خيارين، خيار أن تكون مع الحقيقة الواضحة، وخيار أن تكون ضد الحقيقة ومع من يحاولون تشويهها واللف والدوران من حولها.
الفرز الآن ليس على أساس ديني ولا على أساس قومي ولا حتى على أساس إيديولوجي، وهو عكس محاولات الاستقطاب بين “نحن” و”هم” التي يروج لها اليمين المتطرف.
ما عزز هذا الفرز الجديد هو تزايد الأصوات الشجاعة التي تريد وقف هذا القتل وهذه الإبادة.
مرتين على التوالي وخلال أيام عديدة، تنشر مجموعة من اليهود مقالات واضحة تدين ما تقوم به إسرائيل من جرائم، وكلمة جرائم هي، للعلم، حسب وصف المقال الأخير.
يطالب المقال الأخير الحكومة السويدية بإدانة واضحة لما تمارسه الحكومة الإسرائيلية، ويقول لإسرائيل لا تمارسوا الظلم والوحشية باسمنا، هذا مخالف لمبادئنا اليهودية.
هذا الفرز الإيجابي أصبح يضع الناس بين خيارين، خيار مجموعة من الناس الخائفين على مستقبل السويد وعلى نسيج المجتمع وأمنه، ولا تريد أن تشعر أي أقلية ما بالتمييز، وعدم المساوة في التعامل من قبل الحكومة، ومن قبل الصحافة والمجتمع ككل، هؤلاء يرون الحقيقة ويدافعون عنها، بغض النظر عن دينهم وميولهم ولون بشرتهم. أما مجموعة الخيار الأخر، والتي تدعي حرصها على إسرائيل وعلى اليهود فهي في الواقع، وفي كثير منها مجموعة من اليمين المتطرف، المعروف أصلاً وتاريخياً أنهم أول المعادين للسامية، وآخر همهم إسرائيل وأمن سكانها.
هؤلاء يمشون على مبدأ “عدو عدوي صديقي” لأن عدوهم الأول والأخير هم المهاجرون القادمون تحديداً من الشرق الأوسط، والدول الإسلامية، والسبب المعلن وغير المعلن، أن هؤلاء المهاجرين يشكلون خطراً على “نظافة” ثقافتهم الغربية أو بشكل أوضح خطراً على “نقاء” جنسهم “المميز” عن بقية البشر.
هذه هي الحقيقة، اليوم غزة هي المفرزة التي تفرز الناس حسب انتمائهم لإنسانيتهم وليس حسب أي شيء آخر، هنا يختلط اليهود مع العرب مع الفلسطينيين مع كل المكونات الأخرى، صفاً واحداً ضد العنف وضد اللاسامية وضد الإسلاموفوبيا وضد الكراهية وضد الإرهاب، وضد من يحاولون إخفاء الحقيقة. هذا هو الفرز الحقيقي الحاصل اليوم، وهذا ما يعطي الأمل بأن المجتمع السويدي لا يزال بخير وأن أوروبا لا تزال بخير وأن العالم لا يزال بخير، طالما يوجد صحفية مخضرمة رائعة قالت أمام حوالي 200 من نخبة الصحفيين السويديين وهي تستلم جائزة الصحافة السويدية أمس: إياكم والخضوع، خصوصاً في هذه الأوقات العصيبة.