ولكن!

كيف نحمي الديمقراطية من نفسها؟

: 7/31/23, 11:18 AM
Updated: 7/31/23, 11:18 AM

ليس للسويد أي تاريخ استعماري لا في ذاكرة المسلمين أو في ذاكرة غيرهم من الشعوب، على العكس استقبل هذا البلد مئات آلاف اللاجئين من البلدان الإسلامية الباحثين عن ظروف حياة أفضل لهم ولأطفالهم، وفتح لهم المجال للعيش والتأقلم والحصول على فرص للعيش بكرامة، مثلهم مثل بقية المواطنين، وساند هذا البلد أكثر من غيره من الدول الغربية قضايا الشعوب العادلة، هذا البلد سعيد أو كان سعيداً، بما يقدمه للبشرية من مساعدات إنسانية سخية، تعد الأعلى من بين الدول المانحة، هذا البلد سعيد أو كان سعيداً ليس حسب مؤشرات السعادة الدولية فقط، بل حسب مستويات رغد العيش والرفاهية والكرامة الإنسانية…الآن يبدو أن الصورة انقلبت وأصبحت السويد في نظر البعض على الأقل عدوة للمسلمين وجاحدة بحقوقهم وبحقوق الإنسان، بل تحولت إلى بلد تعيس أيضاً، نعم السويد الآن تعيسة الحظ وإليكم بعض مؤشرات تعاستها

سألني من يومين شاب صغير، بلهجة لا تخلو من غضب: هل السويد بلد ظالم؟ يمارس القمع ويشن الحروب ويحيك المؤامرات ويحتل أراضي العرب والمسلمين ويستغل خيراتهم؟
نظرت له، وحاولت أن أفهم منه أكثر، دون أن أجيبه، تابع الشاب: لماذا كل هذا الغضب المبالغ به من بعض الدول، بسبب تصرف شخص أرعن وسخيف؟ قلت له السويد يا صديقي ليست ظالمة لكنها تعيسة تعيش الآن مرحلة تعاسة حقيقية.
بيني وبين نفسي شكرت هذا الشاب لأنه نبهني إلى مسألة الظلم، أو إلى الفرق بين الشعور بالظلم أو الشعور بالغيرة على المقدسات، فهل تهرب الشعوب المقموعة والمدمنة على الظلم من واقعها بالغيرة على عمل رمزي يهين مقدساتها؟ وهل تتناسى بعض هذه الشعوب إدمانها على الظالم الحقيقي، ظلم المستبد والمحتل والمستغل، بافتعال ظالم وهمي جديد؟ أم أن منظومة الظلم الحقيقية هي من تغذي صناعة هذا الظالم الحديث، هل السويد البلد السعيد هو الذي أصبح الآن الظالم والمتغطرس؟

قبل أن نكمل مؤشرات التعاسة التي تعاني منها السويد حاليا، دعونا نبتعد عن العواطف قليلاً، ودعونا لا ننساق إلى المزايدات، نحن متفقون على أن حرق المصحف، عمل مدان وجبان ويجب علينا جميعا العمل والدفع نحو منعه في السويد وغيرها، وعلينا استخدام كل الأدوات الديمقراطية والقانونية المتاحة لتجريم التعرض إجمالاً للكتب المقدسة وإهانتها، دعونا نتفق أيضا على أن حرق نسخ من المصحف تحول الآن من عمل أرعن على يد أشخاص لا يمكن وصفهم سوى بالسفاهة والسخافة، إلى استثمار سياسي، يدار من قبل قوى سياسية داخل السويد ومن خارجها، لذلك من أخطر المؤشرات على تعاسة السويد الحالية، هو أن من يدير الحكم فيها فعلا، هو حزب يميني متطرف، الحزب الذي يرى في معظم الأجانب وخاصة المسلمين منهم عالة حالية على السويد وخطر مستقبلي عليها، هذا الحزب يسهم الآن في تكبيل يد الحكومة الظاهرة لنا في الواجهة، ويعيق كما يبدو تحركها.

رئيس الوزراء السياسي المحنك القادم من حزب يميني عريق، عندما أدان هو ووزير خارجيته حرق المصحف، وجه لهما حزب SD مباشرة “سحسوح” على الرقبة، بشكل تحذير يقول إنه ليس من شأن الحكومة أن تدين وتنتقد فعلاً تسمح به الديمقراطية السويدية. لذلك ولتعاسة حظ السويد بقيت الحكومة صامتة دهرا ولما نطقت أخيرا لم تقل شيئا، وركزت على الجانب الأمني وعلى أن قوى أجنبية متربصة تحاول زعزعة الأمن المجتمعي وتشويه صور السويد، تماما كما فعل ويفعل الآن عدة أشخاص ومجموعات من خلال الحملة ضد السوسيال واتهام السويد بخطف أطفال المسلمين.
لا أحد يقلل من أهمية الوضع الأمني، ولا أحد ينكر وجود أيادٍ خارجية تريد فعلاً النيل من السويد، الحملات ضد السويد موجودة وخطيرة، لكن ماذا فعلت الحكومة أكثر من التحذير والتنبيه من هذه الحملات؟ ألا يوجد إجراءات أخرى سياسية ومجتمعية وحتى قانونية يمكن القيام بها؟ إجراءات يمكن أن تسهم بإيقاف هؤلاء المتسلقين على تعاسة السويد الحالية ويحاولون فعلاً النيل منها؟
من العلامات الأخرى على تعاسة السويد، هو مأزق الوقت، السويد وإن أرادت لا تستطيع الآن تغيير قوانينها بسرعة، أي تعديل أو إضافة لفقرة جديدة في القانون تحتاج إلى سنة على الأقل، هنا تبرز عدة أسئلة مهمة: هل تملك هذه الحكومة الإرادة السياسية الكافية لتغيير الوضع القانوني الحالي والذي يسمح بإهانة المقدسات؟ وهل يمكن للشرطة أن تستخدم صلاحياتها بوقف منح أي تصريح لتجمع عام في حال كانت هناك مخاطر أمنية، هنا نعود لتأثير حزب الـSD مرة أخرى ونتذكر أن هذا الحزب انتقد قيادات الشرطة واتهمها بالتقصير والتراخي، مرات عدة، وطالب بإقالة مسؤولها الأول، فهل هذه الانتقادات تؤثر على الشرطة فعلا وتمنعها من إعادة إصدار قرارات سابقة بعدم منح تصاريح في ظروف مشابهة؟

نحن لا نزال نؤمن بأن السويد دولة مؤسسات، الشرطة التي تمنح أولا تمنح التصاريح لها استقلاليتها باتخاذ القرار المناسب.
مثال آخر على استقلال المؤسسات، من الممكن جدا وفي المقابل أن تتخذ مصلحة الهجرة قراراً بسحب إقامة موميكا، أو عدم تجديدها، أي أن القانون الذي منحه تصاريح بإهانة المقدسات هو نفسه القانون الذي من الممكن أن يحرمه من الإقامة، السويد بطبيعة الحال لا تستطيع تسليمه لبلده، عندها من الممكن أن يعيش هذا التعيس هنا في السويد بدون إقامة وبدون حقوق.
مأزق الوقت الذي تعاني منه السويد إذا استطاعت إصدار فتوى قانونية بمنع حرق الكتب المقدسة، لا يقتصر فقط على من يؤيد مثل هذا التوجه، هناك توجهات أخرى تريد الإبقاء على السماح بحرق الكتب المقدسة ضمن حرية التعبير، منها ما يقول: إن قانون حرية التعبير بالنسبة للسويد أيضا مقدس، وهذا القانون موجود للسويديين وفصل لهم وعلى مقاس ثقافتهم وعقليتهم ومسيرة ديمقراطيتهم التاريخية، السويديون دفعوا ثمناً غالياً وتضحيات كبيرة حتى استطاعوا الانتصار على تقديس الرموز الدينية للكنسية، فهل من المعقول أن نغير قوانيننا من أجل إرضاء الغير؟
رأي أخر يقول إن المساس بقانون حرية التعبير يمكن أن يعني المساس بحقوق الأقليات الدينية والعرقية في ممارسة عقائدها، حرية التعبير الحالية التي تمنع السويد من التعرض لأشخاص قاموا بتخريب سمعة السويد، وتمنع المساس بهم مع أنهم يعملون جاهدين للإساءة للسويد وعزل جزء من سكانها وزعزعة الثقة بمؤسسات الدولة، حتى أن السويد بقوتها وعظمتها لا تستطيع إغلاق صفحات تتحدث وتنتحل اسمها وتبث بنفس الوقت السموم ضدها، السبب حرية التعبير، حرية التعبير تمنح كل التوجهات الدينية والسياسية حرية التواجد على أرض السويد وممارسة نشاطاتها، كل ذلك لأن الديمقراطية هنا مقدسة، ولكن السؤال كيف أصبحت الديمقراطية وحرية التعبير سبباً في جلب التعاسة للسويد؟ هل هناك من سيبحث في أسباب الوصول إلى هذه التعاسة بسبب تقديس الديمقراطية، وهل هناك من يفكر بكيف نحمي فعلا الديمقراطية من نفسها..
للحديث بقية ولكن إلى اللقاء.

Alkompis Communication AB 559169-6140 © 2024.